عبد اللطيف دربالة يكتب : كيف حاصرت النيابة العموميّة بتونس قصر الرئاسة بقرطاج..؟؟!!
كتب : عبد اللطيف دربالة
اعتقد الكثيرون أنّ الفقرة الأخيرة المتشنّجة من البلاغ الرئاسي عن حادثة المادّة المشبوهة في المراسلة المجهولة.. والصادر مساء يوم أمس الخميس 28 جانفي 2021.. هي تهجّم على الأمن الذي قام باعتراض وإيقاف المعلّق بقناة التاسعة «رياض جراد» والمدافع الشرس عن الرئيس قيس سعيّد في المدّة الأخيرة.. والذي كان هو من أكّد في البثّ المباشر خبر محاولة الاغتيال والتسميم..
لكنّ الأرجح أنّ المستهدف بذلك الهجوم الرئاسي الشرس كان هو النيابة العموميّة بالمحكمة الابتدائيّة بتونس 1..!!
من المعلوم بأنّ النيابة العموميّة بتونس سارعت فور رواج خبر المراسلة المسمومة وتصريح رياض جراد التلفزي بمحاولة اغتيال للرئيس.. وفي غياب أيّ تصريح رسميّ من الرئاسة.. سارعت إلى فتح تحقيق قضائي في الموضوع..
في نفس الليلة أكّد نائب وكيل للجمهورية ورئيس وحدة الاتصال والاعلام لدى النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس محسن الدالي أنه وعلى ضوء ما تم تناقله من أخبار حول الكشف عن طرد مشبوه لدى مصالح رئاسة الجمهورية، صدر قرار بتكليف إحدى الفرق الأمنية المختصّة بمباشرة الأبحاث اللازمة حول هذا الملف والقيام بمختلف الاعمال والتساخير الفنية اللازمة للكشف عن حقيقة ما تم تداوله..
وأضاف الدالي في تصريح إعلاميّ أنّ النيابة العمومية ستتخذ الاجراءات والقرارات اللازمة على ضوء ما ستتوصل اليه نتائج الابحاث المأذون والمتعهد بها..
واتّضح بذلك أنّ الفرقة الأمنيّة التي اصطحبت رياض جراد واستمعت له.. نفّذت تكليف النيابة العموميّة في الخصوص.. وكان ذلك طبيعيّا باعتبار أنّه أوّل شخص صرّح بأنّ لديه علم بمحاولة اغتيال رئيس الجمهوريّة.. وبتفاصيلها..
لا شكّ أنّ رئاسة الجمهوريّة تدرك وتعرف ذلك تماما.. أي تعرف بأنّ الأمن لم يتصرّف بمفرده وإنّما نفّذ تعليمات القضاء ممثّلة في النيابة العموميّة بتونس.. التي تولّت فتح بحث وصنّفته ضمن قضايا الإرهاب.. وأذنت بإنجاز عدّة أبحاث أمنيّة..
رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد له «سوابق» مع النيابة العموميّة في تونس.. وله «ذكريات سيّئة» مع القاضي محسن الدالي بالذات.. نائب وكيل الجمهوريّة بالمحكمة الابتدائيّة تونس 1..
ذلك أنّه عندما أحضر الرئيس سعيّد الوزير السابق لأملاك الدولة غازي الشوّاشي في حكومة الفخفاخ.. وتحدّث معه أمام الكاميرا وتمّ بثّ الفيديو على صفحة الرئاسة على الفايسبوك.. وذلك عن ملفّ حادث المرور للسيّارة الإداريّة التابعة للوزير السابق أنور معروف.. وقال بأنّ الملّف اختفى من المحكمة.. ملمّحا لتلاعب بتهرّب الوزير أو ابنته من المحاكمة.. سارع القاضي محسن الدالي بالذات نائب وكيل الجمهوريّة بالمحكمة الابتدائيّة تونس 1 بإصدار بلاغ رسميّ بعد ساعات.. دفاعا عن المحكمة التي ينطق باسمها.. نفى فيه جملة وتفصيلا اتّهامات رئيس الجمهوريّة.. بل وأثبت أنّ القضيّة أخذت مجراها الطبيعي.. وقدّم رقم القضيّة وتاريخ جلستها الأولى التي تأجّلت وتاريخ جلستها الثانية.. الشيء الذي أظهر عدم صحّة معلومات الرئيس.. ووضع قيس سعيّد في موقف محرج جدّا..
ربّما كان ذلك هو ما جعل بلاغ رئاسة الجمهوريّة هذه المرّة متشنّجا.. ويهاجم النيابة العموميّة بتونس تلميحا دون ذكرها صراحة..
ويهاجمها مستنكرا ما اعتبره «مطاردة من تولى تناقل خبر محاولة التسميم هذه، عوض البحث عمن قام بهذه المحاولة البائسة.»..
يبدو موقف وبلاغ رئاسة الجمهوريّة والحالة تلك غريبا ومتجاوزا للمنطق باعتبار أنّه وإذا ما كانت رئاسة الجمهوريّة فضّلت كما اعترف بلاغها الرسمي نفسه عدم الإعلان عن الأمر في البداية.. ولم تقدّم إعلاما قانونيّا للقضاء.. ولا تواصلت أو تعاونت مع النيابة العموميّة.. فكيف تنتقد حينها عدم البحث عمّن قام بهذه المحاولة وهي تتكتّم عنها وتخفي (حتّى الآن) جميع عناصرها وأدلّتها..؟؟؟!!!
مساء يوم الخميس 28 جانفي.. أكّد الناطق الرسمي باسم النيابة العموميّة بالمحكمة الابتدائيّة بتونس محسن الدالي أنّ مصالح رئاسة الجمهوريّة لم تتّصل بهم.. ولم تتواصل معهم أيّ جهة رسميّة.. وأنّ الوحدة العلميّة لم تتمكّن من الحصول على الطرد المشبوه..
وإلى حدّ الآن لم يصدر جديد يخالف ذلك في الموضوع..
وهو ما يدلّ على أنّ رئاسة الجمهوريّة تحت إشراف الرئيس قيس سعيّد ترفض حاليّا التواصل مع النيابة العموميّة بتونس.. أو التعاون معها في ما يخصّ التحقيق والبحث في الحادثة الأخيرة..
لا شكّ أنّ هذا الموقف العدائي.. وهذا الرفض للتعاون مع النيابة العموميّة التي تمثّل بمفردها الجهة القضائيّة الوحيدة التي يمكنها أن تبحث وتحقّق في جريمة محتملة بمحاولة اغتيال أو تسميم رئيس الجمهوريّة أو أيّ شخص من فريق عمله.. قد يبعث على الاستغراب.. وخاصّة على التساؤل حول الأسباب الخفيّة والدوافع الحقيقيّة لمثل هذا الرفض..
هل هو فقط «التصادم السياسي والاعلامي» السابق بتكذيب النيابة العموميّة لتصريحات رئيس الجمهوريّة حول إخفاء ملفّ قضائي.. بما شكّل له حرجا سياسيّا وشعبيّا بالغا وأفقده المصداقيّة أو الدقّة..؟؟
أم أنّه خيار متعمّد لرئاسة الجمهوريّة.. بما قد يدفع للارتياب في الموضوع.. والتساؤل أيضا ما إذا كانت رئاسة الجمهوريّة تريد «السيطرة» كليّا على تفاصيل وملابسات وخفايا حادثة المراسلة المشبوهة.. وعدم إشراك أيّ طرف من خارجها في البحث..؟؟!!
هل تخشى رئاسة الجمهوريّة من كشف النيابة العموميّة لأمر ما..؟؟!!
وهل أنّ رئاسة الجمهوريّة لديها ما تخفيه في الموضوع..؟؟!!
أمام الصمت المريب لرئاسة الجمهوريّة.. ورفضها التعاون في التحقيق.. ورفضها تسليم الظرف المشبوه إلى الوحدة العلميّة التي سخّرتها النيابة العموميّة بتونس للموضوع.. تحرّكت وكالة الجمهوريّة بتونس ومرّة أخرى من تلقاء نفسها.. وقامت وفق بلاغها الرسمي الصادر للرأي العام كما قالت.. مساء اليوم الجمعة 29 جانفي 2021 .. بتوجيه مكتوب إلى الإدارة الفرعية للمخابر الجنائية والعلمية بوزارة الداخلية عن طريق الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية بتونس للاستفسار عن وجود ذلك التقرير من عدمه وموافاتها به إن وجد، وقد تلقت بنفس التاريخ إجابة مرفقة بتقرير.
وأوردت النيابة العمومية في بلاغها، أنّه بعد الإطلاع على محتوى التقرير الفني المشار إليه، تبيّن في خلاصة الأعمال الفنية، أنّه تمّ إجراء اختبارات فنية على الظرف المشبوه بواسطة أجهزة فنية وبطريقة علمية، فتبين عدم احتوائه على أية مواد مشبوهة سامة أو مخدرة أو خطرة أو متفجرة.
وذكرت أنّه جاء بتقرير الإدارة المذكورة، أنّ مصالح رئاسة الجمهورية أحالت عليها بتاريخ 26 جانفي الجاري ظرفا ممزقا، وطلبت إجراء الاختبارات الفنية اللازمة عليه، مضيفة أنّ الإدارة المذكورة أرجعت الظرف الممزق لمصالح رئاسة الجمهورية بنفس التاريخ بعد إجراء الاختبارات الفنية المطلوبة.
بذلك تجاوزت النيابة العموميّة بتونس وبنيّة واضحة تعنّت رئاسة الجمهوريّة.. قاطعة عليها طريق التعتيم واحتكار المعلومة.. والتي للأسف كانت معلومة غير صحيحة.. فقطعت عليها الطريق بقوّة وطريقة مباغتة.. وأخذت رأسا المعلومة التي تريدها من المخبر العلمي الأمني المختصّ الذي توجّهت إلى مصالحه رئاسة الجمهوريّة بنفسها للبحث في ماهيّة المادّة المشبوهة..
وهنا كانت المفاجأة بأنّ المختبر توصّل بالظرف المشبوه يوم الثلاثاء 26 جانفي.. وقام بتحليله وأكّد خلّوه تماما من أيّ مواد سامّة أو مخدّرة أو خطيرة بأيّ شكل.. وقام بإرجاع الظرف مع جوابه في تقرير كتابي إلى رئاسة الجمهوريّة بنفس اليوم.. معلما إيّاها بتلك النتيجة..
لكنّ بلاغ رئاسة الجمهوريّة واصل مع ذلك الترويج لمحاولة التسميم ببلاغ رسميّ أصدره يوم أمس الخميس 28 جانفي.. وزعم فيه زورا أنّه لم يتسنّى معرفة نوعيّة المادّة حتّى الآن.. في حين كان على علم أنّه لا وجود لمادّة أصلا..!!
يبدو أنّ تدخّل النيابة العموميّة بتونس 1 بشكل تلقائي وسريع وحازم في موضوع الخبر الرائج عن محاولة تسميم رئيس الجمهوريّة.. مقابل الصمت المتعمّد لمصالح رئاسة الجمهوريّة طوال حوالي 24 ساعة كاملة.. قد قطع الطريق على الكثير من الأمور الغامضة والخفيّة.. ومنها تسريب الخبر عبر صفحات قريبة من رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد نفسه دون الإعلان عنه رسميّا.. ثمّ تأكيده من معلّق لا علاقة له رسميّة برئاسة الجمهوريّة.. لكنّ دفاعه المستميت عن الرئيس سعيّد جعله محسوبا عليه منذ فترة.. ومن الوارد أنّ له ارتباطات بمحيط الرئيس بطريقة أو بأخرى..
ربّما كان هذه الإجراء الفوري القويّ من النيابة العموميّة بتونس هو ما قطع الطريق على مواصلة تلاعب بعض الإعلاميّين ووسائل التواصل الاجتماعي والأطراف السياسيّة بترويج الخبر.. وتجييش الشارع قبل حتّى ثبوت سميّة المادّة.. وتركيب الاستنتاجات وتوزيع الاتّهامات.. مثلما بدأ يفعله رياض جراد نفسه بقناة «التاسعة» ليلة الأربعاء.. وأطراف أخرى عديدة..
وقد بدأت محاولات استثمار خبر محاولة تسميم الرئيس واغتياله حتّى قبل توضّح ظروف الواقعة عن وصول مراسلة مشبوهة بمادّة مجهولة بواسطة ظرف خال من اسم المرسل.. وفتحه مع ذلك من الشخص الثاني في رئاسة الجمهوريّة الوزيرة مديرة الديوان الرئاسي بنفسها وشخصيّا.. وإصابتها كما قال بلاغ الرئاسة بإغماء وفقدان وقتي لحاسّة البصر وصداع كبير في الرأس..
لكنّ تدخّل النيابة العموميّة على الخطّ بما لها من اختصاص قانوني وقضائي في البحث والتحقيق في الجرائم.. ساعد في قطع الطريق على «المتاجرة» السياسيّة والشعبويّة بالموضوع.. واضطرّ رئاسة الجمهوريّة إلى القيام بتوضيحات بدت مضطربة ومتناقضة.. وكان ذلك أوّلا عبر المكلّفة بالإعلام ريم قاسم صباح يوم الخميس عبر إذاعة «شمس اف ام».. ثمّ بصدور بلاغ رسمي أخيرا عن رئاسة الجمهوريّة في المساء..
في الأثناء.. فإنّ المثير للانتباه أنّ رئاسة الجمهوريّة لازالت ترفض التعاون والتواصل مع القضاء في الموضوع..
وترفض كشف وتسليم ما لديها من معطيات وأدلّة عن الحادثة للنيابة العموميّة..
وترفض تسليم المراسلة المشبوهة إلى وحدة البحث العلمي المختصّة التي سخّرتها النيابة العموميّة بتونس لتحليل المادّة..
ولازال الشعب التونسي يتساءل كيف أنّ مراسلة غامضة بدون ذكر للمرسل على الظرف تصل رأسا ومباشرة إلى يد رئيسة ديوان رئيس الجمهوريّة شخصيّا وتفتحها مع ذلك بنفسها.. رغم وجود عشرات الموظّفين بالقصر الرئاسي.. ورغم وجود إجراءات أمنيّة وقائيّة معروفة في الخصوص.. لا سيما بالنسبة للمراسلات المجهولة المصدر..؟؟!!
ولا يزال الشعب التونسي لم يفهم كيف أنّ ردّ الفعل على الإصابة بأعراض صحيّة خطيرة تصل حدّ الإغماء وفقدان حاسّة البصر.. يدفع بالشخص إلى إلقاء المراسلة في آلة تمزيق الأوراق كما جاء بنصّ بلاغ التوضيح لرئاسة الجمهوريّة..؟؟!!
النيابة العموميّة بالمحكمة الابتدائيّة بتونس.. والمختصّة قانونا وحصرا بجميع قضايا الإرهاب في كامل تراب الجمهوريّة.. أخذت مبادرة إيجابيّة بوضع الأمور سريعا في إطارها القانوني والقضائي.. باعتبار أنّ الأمر ولئن تعلّق بحادثة أو جريمة طالت رئاسة الجمهوريّة.. فإنّ تونس ما بعد الثورة.. وفي ظلّ منظومة دستوريّة وقانونيّة مؤسّساتيّة.. فيها نظام قانوني وقضائي واحد.. وفيها جهة واحدة أوكل لها القانون والدستور (الذي يقول رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد نفسه مرارا أنّه أقسم على احترامه).. أوكل لها سلطة وصلاحيّة البحث والتحقيق في الجرائم وإحالة مرتكبيها إلى العدالة..
إنّ رئاسة الجمهوريّة بعد الثورة لم تعد مؤسّسة فوق جميع المؤسّسات كما كانت في عهد بن علي.. الذي كانت فيه الرئاسة وجهازها الأمني يمكن فعلا أن يبحثوا ويحقّقوا في ما يعتبرونه جرائم.. وذلك بطريقة سريّة وفرديّة وأحاديّة.. وبسلطة مطلقة بلا رقيب ولا حسيب..
وإنّما على مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة اليوم أن تخضع لدستور الجمهوريّة.. ولنظامها القانوني.. ولمؤسّساتها..
فإن حدثت جريمة استهدفت الرئيس.. أو مسّت أحد مساعديه.. كان لزاما على الرئاسة إعلام النيابة العموميّة والتعاون معها بشكل مطلق.. وذلك تحت رقابة القضاء.. حتّى لا تطلع علينا رئاسة الجمهوريّة في كلّ يوم برواية.. وتقول الشيء ونقيضه كما يحلو لها.. وتصدر تسريبات وتصريحات وبلاغات مليئة بالأمور الغريبة والمدهشة والمتناقضة في الكثير من الأحيان..
إنّ زمن استبلاه رئاسة الجمهوريّة للشعب التونسي والتعامل مع كلامها وكأنّه قرآن منزّل من السماء أو كلام أنبياء.. رحل مع رحيل بن علي ذات غروب شمس مساء يوم 14 جانفي 2011.. والذي رفض رئيس الجمهوريّة الحالي قيس سعيّد الاحتفال به..
وإنّ الزمن الذي كان فيه على جميع السلط والمؤسّسات والأفراد والقضاء والإعلام والشعب.. أن يقولوا «صدقت رئاسة الجمهوريّة».. مهما كانت أخبارها وبلاغاتها ومزاعمها سرياليّة وغير منطقيّة ولا صادقة.. تبخّر واندثر..
وإنّ الزمن الذي كان فيه رئيس الجمهوريّة هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء.. وبذلك يحكم فيه ويسيّره ويملي عليه أحكامه وإجراءاته ويطوّعه كما يريد.. كان زمانا ماضيا..
وإنّ الزمن الذي كانت فيه رئاسة الجمهوريّة دولة داخل الدولة..
وسلطة فوق جميع السلط..
وكيانا متغطرسا خارجا عن كلّ رقابة..
ولّى وانتهى..
ولن يعود..