تحليل سياسي :لوبيات الفساد بتونس عمرها 65 سنة
كتب: محمد الرصافي المقداد
راهن أهل الفساد على إسقاط شعبية الرئيس قيس سعيد، وإظاهره مظهر العاجز عن فعل شيء، واعتبروا تحذيراته وكلامه عن صواريخه وحربه مجرّد مزحة، لكنه تبيّن لهم أنها صواريخ فتّاكة، وأنّ شعبيّته حطمت توقعات سيقما كونساي والزرقوني معا، ولا مفرّ من محاربة الفساد بعد 25 جويلية.
من كان يعتقد أن الذي حصل بتونس أواخر سنة 2010 وبداية سنة 2011 ثورة، فهو مخطئ تماما قد صدّق حملة الدعاية الممهّدة لقبولها من طرف عامة الشعب على انها نتاج طبيعي داخلي لا دخل فيه لقوى خارجية، استغلت حالة الإحتقان والكره، التي ملأت قلوب التونسيين، من هيمنة عائلة بن علي وتحكمهم في البلاد بهوى جشع، لم يقف عند حد في تجاوزه القانون، لم يترك شيئا من مقدّرا البلاد إلا دخلوها وتاجروا بها، فليس أدل على ما وقع من هذا الذي جرى على مدى عشرية كاملة، تقاسم فيها طرفان انتهازيان مقدرات البلاد، ليتميزوا بها كأن لهم وحدهم الحق دون بقية الشعب، الذي أنهكت شبابه من أصحاب الشهائد العليا بطالة مستديمة لم يروا لنفقها المظلم نورا في نهايته، وكأن قدرهم الذهاب إلى التقاعد والشيخوخة، دون أن يسجل لهم التاريخ شيئا ينفع مستقبلهم الضائع، بعدما باءت محاولاتهم المطلبية واعتصاماتهم بالفشل، كأنما صدر بشأنهم حكم جائر، من محاكمنا التي نخرها الفساد نخر السوس، والحديث عن هذا المرفق الحساس الذي به تقاس أهمية الدول في تقدمها، وتوفيرها أفضل مستويات العدالة والمساواة بين شعوبها، والقضاءُ كما نعرف جميعا – بسمعته السيئة – لم يرى استقلالا منذ الإستقلال المزيف، الذي جاء به عميل فرنسا بامتياز وثعلبها المكّار، الذي استأمنته على مدجنة تونس، والاستعمار الفرنسي يرى بلداننا مجرّد مداجن يستبيحون بيضها، وبهذا القضاء وقضاته قتل بورقيبة رجال الثورة ضد الاستعمار، وأحكام الإعدام بحقهم صدرت منه بلا ريب، وهو في ذلك الوقت المقرر الأوحد و(المجاهد الأكبر) ، بعقلية فرعون : (ما أريكم إلا ما أرى)(*)
ولم يكن حكم الدكتاتور ورجل ال ciaفي تونس بن علي بأحسن من سابقه، فقد اطلقت حاشيته، أسرته وأسرة زوجته مسارا إقتصاديا خبيثا، تمثل في فتح الآفاق أمام الإقتصاد الموازي، وتشجيع من يشاغل فيه، خارج إطار القانون، فهُمْ من يمثل القانون، ويتحكمون فيه الزيادة والنقصان، كما تسمح به مصالحهم، ولم تجد وزارة المالية والجمارك بُدّا من الإنصياع للأوامر الصادرة عنهم، بعدم تفتيش الحاويات القادمة من الصين وتركيا وسوريا وأوروبا، والتي تحمل علامات خاصة تشير إلى انها على مسؤوليتهم، مقابل ذلك استفاد آل بن علي وآل الطرابلسي وكل من عمل معهم – لا اقصد هنا صغار التجار وانما حيتانه الكبيرة – بعائدات تلك التجارة، زيادة على التنقيب عن الكنوز وتهريبها إلى الخارج.
أمريكا والغرب كانوا يدركون جيدا أن هذا النظام، وبهذا الأسلوب في الحكم سينتهي إلى السقوط مهما طال به الزمن، فعملوا على التخطيط لبديل يضمن لهم مصالحهم في البلاد، ولما سنحت الفرصة وجاء وقت التخلّص من مافيا بن علي، استغلّت عملية حرق محمد البوعزيزي نفسه في محافظة سيدي بوزيد، للركوب على الحدث وتحريض الشعب للقيان في وجه النظام، وكان ما كان من حبك عملية اخراج بن علي خارج تونس، بإيهامه أن الأمر يتطلب مغادرته البلاد، لامتصاص غضب الشعب، وأعتقد أن آمر الحرس الرئاسي السرياطي ورشيد عمار، كانا منفذين لتلك الأوامر، وإن كنت أرجّح أنّ المسألة أكثر درامية من هذا الذي وقع تسريبه، وهي أن بن علي وقع إخراجه بقوة السلاح، والتهديد بالقتل لو لم يمتثل، وهذا السيناريو هو الأقرب للحقيقة، لما نعرفه من دموية الرّجل في أحداث سنة 1978 وأحداث الخبزة سنة 1984 بعدها، وما ارتكبه من قتل متظاهرين بدم بارد، ودفنهم بعد ذلك في مقابل ليلا لطمس جرائمه، وهو المنفّذ لها بأمر من بورقيبة، ومن الغباء تصديق خروجه بالرواية المُخرجة رسميا، ونحن نعيش زمن وعي الشعوب، وعقلية الغباء تقلّصت في زماننا.
ولما آلت الأمور إلى ما بعد 14 جانفي 2011 كانت الخطة تقتضي ضرب الإسلام السياسي، في فترة تغوّل أعداء الاسلام على تشكيل جبهة عالمية ضدّه، فضرب الإخوان في مصر، ولُعِبَ بالإخوان في سوريا، فأُدْخِلوا في مخطط إسقاط نظامها، والذي يهدف إلى تهيئة مناخ أمثل، لقيام مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يضمن الأمن الدائم للكيان الصهيوني الغاصب، وسيطرته على منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي اندثار القضية الفلسطينية، بإنهاء عناصر مقاومتها في فلسطين ولبنان، قطعا لطريق المشروع الإسلامي الإيراني في القضاء على إسرائيل حقيقة.
ولم يكن دخول حركة النهضة في معترك النشاط السياسي، برجوع قياداتها من المنافي، إلا تنفيذا لتعهدات التزم بها زعيمهم حسب ما يبدو- وكتلة النهضة هي المعرقل لقانون تجريم التطبيع بلا خلاف- بأن لا يعترض على أي تطبيع يقع، وأن لا يوافق على سن قانون تجريم التطبيع، معتقدة أن ذلك سيعطيها مجالا أكبر من الأمان مع دول الغرب النّافذة في السياسة التونسية (فرنسا/ أمريكا وأخيرا بريطانيا)، فأطلقت العنان لأحلام سيطرتها على البلاد، فلم تمانع من قبول شخصيات دستورية من العهد البائد أعضاء لديها، واسندت لهم مهامّ معتبرة، واستعانت برجال أعمال متورطين في نهب المال العام، غاضة الطّرف عن شبهات فسادهم، وأخطر من ذلك كله، تورط قياداتها في إدارة شبكات تسفير شبابنا، إلى بؤر التوتّر بسوريا والعراق، عبر ليبيا ومباشرة من تونس أيضا.
نحن ندرك جيّدا، أن الفساد نخر أجهزتنا الأمنية والقضائية، بل لم يترك موقعا في بلادنا إلا دخله، واستفاد من تموقع أصحابه فيه، بما بلغ الوضع حدّا مأسويّا، لم يعد بالإمكان السكوت عنه، فقد أشرفنا على انهيار الدولة تماما، وسقوط البلاد في وضعيات خطيرة، قد تؤدي إلى الرضوخ القسري للدول الإستعمارية، بالتفويت مثلا في قواعد عسكرية بمقابل، تشكل خطرا علينا وعلى أشقائنا في الجزائر و غيرها من البلدان التي أغلقت أبوابها في وجه منظومة الغرب الإستعماري، وهذا من أسوأ النتائج المتوقعة، لو استمر الوضع على ما كان عليه قبل 25 جويلية، والرئيس قيس سعيد وعى ذلك كله، بل علم أن هناك من يعمل على سحب الثقة منه، وكانت أمامه فرصة تاريخية له ولشعبه، استغلها كأحسن ما يكون، نسأل الله تعالى أن يحفظه من كل مكروه، وأن يوفقه في محاربة الفساد اينما تموقع، وبالتأكيد فإن الشعب معه اليوم في جميع قراراته الإصلاحية، ويجب أن يعبّر له على ذلك كل مرّة، حتى تفهم الدّول الغربية المتدخّلة في شؤوننا، أن عليها أن تكفّ عن التدخّل فينا، وتهتمّ بشؤونها الداخلية أحسن.
المصدر:
(*) سورة غافر الآية 29.