السينما المصرية المتهمة بخيانة الجماهير… لصالح السُلطة
كتب الناقد المصري كمال القاضي:
عبر تاريخها الطويل العابر لأكثر من مائة عام، تعددت مسارات السينما المصرية وتنوعت رؤاها السياسية والاجتماعية تجاه القضايا الأساسية، ولعل باكورة إنتاجها من الأفلام جاء متسقاً مع فكرة العدالة والانتصار للحريات العامة والشخصية ومحفزاً على العمل الجاد الذي يضمن استقلالية القرار الفردي والجمعي ليكون المجتمع بمنأى عن ضغوط السُلطة، التي تحول أحياناً ما بين الإبداع وحريته المنشودة. وقد ترجم فيلم «لاشين»، وهو أول الأفلام التراثية التي أطلقت صرخة الحرية وجعلتها مرادفاً للتنوير، كل المعاني المؤدية للهدف باعتبار الحرية محور الارتكاز الأساسي لدوران الحركة الثقافية المتصلة بالحياة الاجتماعية ومكوناتها.
وفي سياق التجربة الواقعية الرائدة والمتمثلة في فيلم «العزيمة» للمخرج كمال سليم، كان الشعار الحامل للرسالة السينمائية متصلاً غير منفصل مع الأفكار التقدمية ذاتها المتعلقة بالمبادئ الأساسية لنهوض المجتمعات، وأولها الإعلاء من قيمة العمل وإتاحة الفرص للأجيال الجديدة المؤهلة للإعراب عن أفكارها المتطورة في شتى المجالات الحيوية .
ومع تغير المراحل الزمنية وتواتر موجات أخرى فكرية، باتت السينما المصرية رهينة الخطط المستقبلية، وبدأت عمليات الاستشراف لما هو آت محل اهتمام صُناع الأفلام التي كانت الأوعية التي حملت بشائر العهد الجديد إزاء تغير المفاهيم واستخدام الثقافة السينمائية كأداة تحول مضمونة التأثير.
وفي هذا المضمار، أطلق مصطلح سينما ثورة يوليو كسابقة أولى للتوصيف والتصنيف على الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية إبان فترتي الخمسينيات والستينيات بدعم من المؤسسات الرسمية، وقد استُخدم هذا المصطلح ليعطى معنى دلالياً على هيمنة الدولة آن ذاك على روافد الإبداع وتوجيهه ليكون في خدمة السلطة وليس في خدمة الجماهير .
هكذا جاء الإسقاط الاصطلاحي ليوجه الاتهام المباشر بخيانة السينما المصرية في أعقاب فترة الحراك الثوري من الجبهة النقدية المعارضة تناغماً مع الخطاب السائد ومرحلة تصفية الحسابات وبداية الطعن في المبادئ الثورية مع مطلع السبعينيات وتولي الرئيس السادات مقاليد الحُكم، وبرغم الشك في عدم موضوعية الاتهام المجحف لحق السينما والسينمائيين إلا أن مصطلح سينما يوليو لاقى رواجاً كبيراً وبات يُستخدم على مستويين متناقضين، مستوى يشير إلى التعريف بسمات السينما المرحلية ومكوناتها وأهدافها، ومستوى آخر يطعن في نزاهتها ويشي بها كسينما خضعت لشروط السُلطة وتوجهاتها وخلقت، على حد تعبير الزاعمين، واقعاً مزيفاً بعيداً عن الهموم والمشكلات الحقيقية للمواطن البسيط .
وظل الخلاف على دور السينما والفن في عمومه محل نزاع أحاط بالجزء الأهم من تاريخ الإبداع المصري، وقد استغل كل فريق نوعاً سينمائياً خاصاً في إثبات صحة رأيه وتأكيد وجهة نظرة، فمن يرى أن ثورة يوليو 52 صنعت سينما انحازت للفقراء وطرحت قضايا مهمة من منظور وطني، يستشهد بأفلام مثل الحرام والزوجة الثانية ورد قلبي وبداية ونهاية والأرض وباب الحديد والأيدي الناعمة والفتوة وبور سعيد وغروب وشروق، ليقدم الأدلة على عظمة ونُبل ما تم إنجازه في إطار إنساني اجتماعي سياسي .
ومن يرى من الطرف الآخر أن سينما يوليو كرست للزعامة والبطولة الفردية، إسقاطاً على زعامة وبطولة عبد الناصر، يلجأ إلى اجتزاء الأشياء من سياقها الصحيح ويترجم المعاني حسب ما يريد فيقدم أدلته السينمائية من واقع إنتاج المرحلة التي أشرنا إليها سلفاً، وهي مرحلة تصفية الحسابات مع الثورة في فترة السبعينيات التي شهدت مواجهات عنيفة بين الرئيس السادات ورموز النظام الناصري أو ما أسماهم الرئيس حينئذ بمراكز القوى، واستخدم ضدهم سلاح السينما ليكون أداة التشهير بهم لتبرير التنكيل والتشريد والتعذيب وفتح أبواب السجون على مصارعها! ووفق هذه السياسة، خرجت مجموعة وفيرة من أفلام كبرى حملت شعار العداء المطلق للرئيس عبد الناصر، وعملت على تشويه سياسته بالكامل والنيل من تاريخه وإنجازاته، كان من بينها إحنا بتوع الأتوبيس، والكرنك، وثرثرة فوق النيل وميرامار، والرصاصة لا تزال في جيبي، واتنين على الطريق، وطائر الليل الحزين، وغيرها من نوعيات السينما الثأرية التي خلطت الأوراق واتخذت من نكسة يونيو ذريعة للانقضاض على ثورة يوليو وزعيمها ورجالها بدون تمييز أو أدنى محاولة لقراءة متأنية تضع النقاط فوق الحروف بحيادية وتجرد.
وقد أغفل المناوئون لسينما الخمسينيات والستينيات والمتهمين إياها بأنها كانت بوقاً من أبواق السُلطة، أنها هي ذاتها من قدم فيلم شيء من الخوف للكاتب ثروت أباظة والمخرج حسين كمال، والذي تضمن نقداً حاداً لنظام الحُكم الناصري واتهم عبد الناصر نفسه اتهاماً صريحاً بالديكتاتورية والقمع وتقويض الحريات، بل أشار إلى ما هو أشد جُرماً، حيث القتل والحرق والاغتصاب، ومع ذلك لم يتم منع الفيلم من العرض ولم يتعرض أي من صُناعه وأبطاله للمساءلة القانونية، بل تم تكريم محمود مرسي وشادية، البطلين الرئيسيين في أكثر من مناسبة، وشارك الفيلم في كثير من المهرجانات وحصد العديد من الجوائز.
وامتداداً للخط النقدي لثورة يوليو، جاءت أفلام أخرى انتهجت النهج نفسه وقدمت رؤى مختلفة باختلاف مستوياتها الجيدة والرديئة، نذكر منها على سبيل المثال فيلمي تلاتة على الطريق، وخريف آدم للمخرج، والسيناريست محمد كامل القليوبي وهو أحد فناني الحركة اليسارية ومن خصوم ثورة يوليو التاريخيين، وكذلك فيلم صياد اليمام المأخوذ عن رواية الكاتب إبراهيم عبد المجيد، وفيلم حلاوة روح للمخرج أحمد فؤاد درويش والمأخوذ عن قصة العسكري الأسود ليوسف إدريس، وأيضاً فيلم أحلام صغيرة بطولة صلاح السعدني وميرفت أمين، الذي قدم من خلاله المخرج خالد الحجر نموذجاً فنياً تراجيدياً بديعاً لمأساة النكسة وآلامها بشكل خالف منطق الهجوم العدائي الفج، ولكنه طرح ما يدلل على حدة الخطاب النقدي في سياقه المقبول، فكان أكثر تأثيراً وعمقاً وإقناعاً.
وعلى مستوى تجارب أخرى أكبر وأوضح، قدمت السينما المصرية ما ينفي عنها تهمة الحياد والانحياز والوقوف في المنطقة الرمادية، إذ قدمت تجاربها السياسية النضالية في أعمال هي بكل المقاييس علامات مضيئة في تاريخها، سواء ابتعدت أو اقتربت من مفهوم التقييم العام لأدائها قبل أو بعد ثورة يوليو، فلا يمكن نسيان العصفور والاختيار وعودة الابن الضال.. دلائل التألق في سينما يوسف شاهين وأهم محطات قطاره الإبداعي العابر للبلدان والأقطار والأزمنة.
المصدر : القدس العربي