منار الاسكندراني يكتب/ “ما أوحت به استقالة عبد الحميد الجلاصي”
قامت الحركات السياسية المعارضة في العهد البورقيبي والنوفمبري ضد التسلط ودولة الاستبداد فكانت أقرب إلى الجمعيات المعارضة منها إلى الأحزاب، بما في ذلك التجمع وقبله الحزب الدستوري، فالصراع السياسي كان ذا طابع أيديولوجي، وشعاراته تحررية أساسا، فهي معارضةٌ من أجل الوجود لا من أجل التنمية والأمن وهمّ المواطن اليومي. فقُفَّة المواطن ومشاغل الدولة كانت من مهام الرئيس فقط ولا غير، والمعارضة كانت محرومة من الانخراط في الشأن العام ومحرم عليها التواجد السياسي ضرورة.
وما إن جاء 14 جانفي حتى أطلق عنان الحرية ورفع حاجز الخوف، وودّع التونسيُ الحكمَ الفردي إلى غير رجعة واستقبل الحكم التعددي، وأصبح للدولة دستورٌ يهيمن عليها، حتى أصبحت ولادة الأحزاب التنموية فرض لا بد منه والأفول مصيرا حتميًا للحركات القديمة لا مفر منه. فهمُّ المواطن اليومي والتنمية الاجتماعية والأمن والرخاء المعيشي والاستقرار أصبح المحورَ الأساسيَ لكلّ فاعل سياسي.
وقد صرحتُ بهذا عديد المرات سمعيًا وبصريًا وورقيًا وأكدت أن حركة النهضة ستُحَلُّ ضرورة خاصة إن لم تتأقلم مع الوضع الجديد وأن نهايتها باتت حتمية وتكون مع نهاية مرحلة الانتقال الديمقراطي، ولي تصريح في جريدة الصحافة سنة 2013 مع السيد الهاشمي نويرة، على اعتبار أن المشهد السياسي الجديد يفرض ذلك وأن الانقراض مصيرٌ لكل الفاعلين السياسيين، سواء كانت يمينية أو يسارية، خاصة إن لم يستوعبوا عمق الفرق بين مفهوم الحزب في الدكتاتورية ومفهومه في الديمقراطية.. كما أكدت في حلقة الصراحة راحة مع سمير الوافي بعد نشأة النداء ألا مستقبل له إذ أنه أيضا حركة أيديولوجية بالأساس تقوم حول شخصية سي الباجي وأن أفرادَه اجتمعوا حوله فقط لأنهم ضد النهضة.
فاستقلتُ من النهضة وأسستُ حزبا أسميته حزب المصالحة ولم أنجح لاعتبارات كثيرة منها الذاتية وأخرى موضوعية..
نَعَتني أيامُها أبناء الماكينة النهضوية بألفاظ لم أنتظرها، وابتعد عني الكثيرون، وأصبحتُ محل شك وريبة بل وصل القول أني أتاجر من أجل المصلحة الذاتية، وطردتُ من كل المجموعات النهضوية في العالم الافتراضي، يومها كان الأخ عبد الحميد الجلاصي أحد المسؤولين الكبار على المكينة.
وأشهد الله أن علاقتي بالشيخ راشد الغنوشي – رغم انتقادي الشديد للنهضة- لم تتغير ولم أسمع منه ما أكره ولا حاول يوما أن يثنيني عن وجهتي بل بقي يستقبلني بوجه بشوش ويستشيرني كصديق وناصح، بينما حاولتُ مرات عديدة الجلوس إلى أخي عبد الحميد الجلاصي، فما لقيت منه إلا الصد واليد الحديدية وعدم رغبة اللقاء إلا مرة واحدة كمسؤول كانت قصيرة وشعرت فيها وكأني في قسم التحريات.
الخبر الغريب الذي لم انتظره خاصة هذه الأيام استقالة السيد عبد الحميد الجلاصي ويفهم من أقواله أن استقالته -في نهاية المطاف– جاءت لأجل الحفاظ على المسار الديمقراطي في تونس، إذ أنه مهدد من النهضة ومن رئيسها خاصة… هكذا يفهم كلامه!!
كنت انتظر منه ومن غيره أن يقدم لنا نقدًا ذاتيًا عن مساره خاصة عندما كان المسؤول الإداري الأول عن الحركة فيبين لنا أخطاءه الذاتية حتى لا تتكرر وإصلاحاتِه حتى تؤخذ بالاعتبار..
فمن الصعب التصور أن من عمل حياته كلها في حركة سرية ترى المخالف عدوا وتقصي من صفوفها من عارض أمر قيادتها ينقلب مرة واحدة الى ديمقراطي، فتنقية الذهن من مخلفات السرية ودَرَنها ليس بالأمر الهين ولن يكون نافذ المفعول دون القيام بنقد لاذع لمسار الشخص لنفسه وبنفسه، فمن السهل جدا الإشارة إلى أخطاء الآخرين خاصة وإن حسبناهم منافسون أما أخطاؤنا فالغور فيها جهاد.
عرفت شخصيا نجم الدين أربكان والحركة الإسلامية التركية عن قرب، فقد كان يحبني رحمه الله، ومن يتصور أنه بصدد “أردغنة” النهضة فقد فاته القطار، فالحياة السياسية والاجتماعية في تونس ليست هي في تركيا، والنهضة تقدمت شوطًا في اكتساب الشروط الحزبية والتخلص من جلدها القديم وأقر أنه ليس بالكافي بعد…
أود أن أوضح أني لما استقلتُ من الحركة كان الوضع العام في البلاد وفي النهضة خاصة يسمح بذلك، وكنت قد ذكرت في البرنامج التلفزي “شاهد وشواهد” مع إنصاف اليحياوي أن النهضة لو نجحت في تغيير الحكم سنة 87 ما كان يجب عليّ أن أستقيل إذ أن الحكم سينتقل من هيمنة الحزب البورقيبي إلى هيمنة الاتجاه الإسلامي، أما الوضع بعد 2011 يقتضي مني ومن غيري الاستقالة لنبتعد عن الصراع القديم ولننشئ أحزابا تنموية تتكامل مرتبطة بالواقع اليومي للمواطن وبهمّهِ، تدعو إلى التعايش السلمي والقبول بالحكم التشاركي وتنبذ الاقصاء والفرقة، يومها كان الخيار واجبا ومعقولا وسهلا والوضع في بدايته قابلا لكل المسارات والجو السياسي الاجتماعي مازال نقيا.
لكن اليوم وبعد العودة إلى مربع الاستقطاب الذي بدأه سي الباجي رحمه الله، وبعد سقوط النداء وتفرقه إلى أحزابِ قلب تونس وتحيا تونس والمشروع والذين سيتفرقون ضرورة وينقرضون إن لم ينتبهوا، فلا يوجد حزب يقابل النهضة قوة وتنظيما في تونس، وعليه فإن خروج الأفراد من “النهضة” أو من “قلب تونس” أو من “تحيا تونس” بات عبارة عن خنجر في ظهر المسار الديمقراطي برمته.
صحيح أن هناك إشكالات تنظيمية في النهضة – كما هو الحال في غيرها من التحزبات- لكن التحديات الوطنية والإقليمية تدفع صاحب المبادئ، خاصة الآن، إلى الأخذ بها والتريث والصبر للدفاع عن الوحدة ولو كان ذلك على حسابه وموقعه، فكل فعل له هدف واعد يحتاج عند التنزيل إلى تخير الزمان والإطار ليستمر ولا يضيع عبثًا.
وإني لا أزايد حين أجزم -أحب من أحب وكره من كره- أن النهضة ورئيسها حاليا يمثلان العمود الفقري للاستقرار في البلاد خاصة وفي المسار التحرري في العالم العربي عامة، خاصة مع عدم وجود المحكمة الدستورية، ومع الصراع حول المؤسسة التنفيذية ورئاستَيْها، ومع التجاذبات بين الرؤساء الثلاث، ومع الطريقة الانتخابية والتي إن لم تتغير فستجر البلاد نحو الأسوأ، أضف إلى الحالة الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم الفقر وتفشي الفساد وغير ذلك من المشاكل الأخرى..
فعُودُ الديمقراطية والتعددية لم يشتد بعد والطريق مازال به شوك كثير، وإني أنادي النهضة أن تفتح أبوبها للمختصين من كل الألوان لإثرائها، وليس فقط من أبنائها، بل من شرائح الشعب كله، حتى يتسنى لها التأقلم مع الوضع الجديد فتبقى ولا تندثر وحتى تتمكن من الخروج من حركة النهضة الى حزب النهضة.
ولذا.. فإني لا أجد مسوغًا لاستقالة السيد عبد الحميد الجلاصي كما لم أجده عند السيد حمادي الجبالي وغيرهما، وأرى أن تعلة الاستقالة واهية وخارجة عن المسار العام المطلوب من الناحية التوقيتة خاصة والمضمونية، فالمسار الديمقراطي لا يزال مهددا..
وعلى الرغم من ذلك، فإني أرجو لكل غيور على تونس النجاح والفلاح، وأرجو لكل من يٌقْدِم على الاستقالة الخروج من ضيق التحزب الى سعة الوطن وليس من ضيق حزب الى حزب أضيق منه، فتونس فوق كل اعتبار، وهي بين مفترقين لا ثالث لهما، إما النجاح في فضاء الحرية والتعددية أو الفوضى.
وعليه فإني حقيقةً أفكر جديا في العودة والانخراط في النهضة مجددا لكن كحزب.
نشر بموافقة كاتب المقال