دردشة يكتبها الأستاذ الطاهر بوسمة / من رجال طبلبة الذين بقوا في الذاكرة المربي الشيخ خليفة المستيري رحمه الله

كتب : الأستاذ طاهر بوسمة

ذكرني به ابنه إسكندر لما نشر صورته وذكرى وفاته وكان من أصدقائي المقربين ممن حافظ على مودتي ومحبتي وكنت أبادله نفس الشعور إلى وفاته.

وهو المربي خليفة المستيري رحمه الله، كان يكبرني على الأقل بعقد من الزمن ولكنه كان يحرس على الالتقاء بي في أي مناسبة ومنذ كنت تلميذا ثم طالبا أو مسؤولا في الدولة برتبة معتمد ثم وال أو نائب أو محام، وكان لا يترك فرصة للسؤال عني وزيارتي وخاصة لما كنت اقضي عطلتي الصيفية بمسقط راسي طبلبة التي ما زلت احن اليها دائما ولكن العمر بي تقدم ولم اعد أقدر على التنقل والمواظبة على زيارتها.

ومما بقي في خاطري طرافته وخفة ظله، جمعتني به قرابة، وأمه عليها رحمة الله ابنة عمتي التي كانت تتقن صناعة المصاغ العربي الذي كنا نكتب به ألواحنا لنحفظ منها جزءا من القران لدى المؤدب.

لم تكن حاجز السن يحول دون التقائنا لشرب كأس شاي أحمر معقد ونتقاسم ثمن حشيشته حسب عدد الحاضرين بالعدل بيننا لتواصل الصحبة بدون قلق.

اتذكر انه كان مغرما بلعب الورق وكثيرا ما يخسر ويدفع ثمن المشروب للجماعة بروح رياضية عالية خلافا لغيره.

كنا نقضي عادة عطلة الصيف معا مع مجموعة من المعلمين خاصة ونجلس على حصير أمام محل لتجارة العطرية ويشاركنا صاحبه في جلستنا أمامه ونتبادل الحديث بيننا وكان لا يبخل علينا بطرفة من طرفه الغني بها لكثرة مغامراته وتنقلاته وسفراته.

اتذكر انه كان مثقفا ومطلعا وتكوينه العلمي راسخا إذ درس بالزيتونة في أيامها وأتقن علومها من نحو وصرف وبلاغة وبذلك اشتهر بالبراعة وحفظ متونها والجواب عن اغلب الأسئلة.

كما اتذكر انه كان مؤمنا متفتحا يفسر الدين حسب فهمه، سخي مع غيره ولا يتحدث بذلك ولكنني أعرف عنه الكثير من ذلك، إذ كان يكفل الصغار الموكول له رعايتهم القادمين من أرياف الجهة وبالخصوص السواسي وشربان متعهدا بأكلهم وملبسهم على وجه الفضل ولا يتحدث بذلك عنهم لأحد، ويمكن لبعض المتخرجين من تلكم الأرياف لو تيسر لهم الاطلاع على ما أكتب عنه سيتذكرونه ويترحمون على روحه.

كان معلما باللغة العربية بارزا لسنوات عدة بقابس والجزائر وطبلبة خاصة وتخرج على يديه نخب ما زالوا يذكرونه حتى من خارجها وكان المرحوم الهادي بوشماوي رجل المال والأعمال المشهور دائما يسألني عنه ويذكر لي سمعته التي بقيت ببوشمة بقابس أيام عمله بها معلما.

ومن الطرائف التي بقيت عالقة بذاكرتي انه كان يملك سيارة خاصة وكان ذلك نادرا بقريتنا ولم يكن يمنعها عن أحد يحتاجها بشرط دفع ثمن الوقود الذي تستهلكه على نفقته،

وأتذكر رحلة قمنا بها لأغلب شمال تونس وغربها وكنا وقتها جماعة اخترنا بعضنا وأتذكر منهم الحاج فرج بن فضل وعبد الرزاق تقية وعبد الحميد التركي ومحمد الحبيب بيوض وصالح بالكحلة كسائق للسيارة معنا والمترجم له وكاتب هذه الأسطر الذي بالمناسبة يترحم عليهم كلهم بعدما فارقوا هذه لدنيا الفانية.

لقد دامت تلك الرحلة نحو أسبوع بدأنها من طبلبة نحو العاصمة وتحولنا لعين دراهم وطبرقة وسوق الأربعاء (جندوبة حاليا) ثم الكاف ومكثر وسليانة وباجة والروحية وزغوان وماطر وبنزرت ثم عدنا إلى القيروان وسيبطله والقصرين ورجعنا إلى المكان الذي انطلاقنا منه طبلبة، وكنا محل حفاوة وإكرام من معارفنا من طبلبة وغيرها، وأتذكر منهم على سبيل الذكر الطيب تقية والبشير حدادة والناجي بيوض رحمهم الله وقد اعتنوا بنا أكلا ومبيتا على حسابهم.

واعود للمترجم له لأذكر بما عرفته عنه من حب للفن ومواظبة على الاستماع إلى اصوله من صالح عبد الحي وكوكب الشرق أم كلثوم وكان يحب الاستماع إلى مقرئي القران المصريين أبو العينين شعيشع وطه الفشني خاصة وأظنه أطلق اسمه على ابن من ابنائه.

تظنه متناقضًا عندما تسمعه يتحدث عن قضايا عدة في العلم والتاريخ والسياسة ولكنه كان فيلسوفًا في حياته لا يهتم كثيرا بملبسه، سخي مع غيره مقتر على نفسه وربما على عائلته.

يميل في بعض الأحيان للسخرية ولكنه يحب من يحترمه، ويتجاهل من يستعلي عليه ادعاء وتكبرا، فيظهر لهم نواقصهم لأنه كان أكثر منهم تمكنا علما ومعرفة. تذكرته هذا اليوم بعدما قرأت مدونة خاصة به نشرها ابنه إسكندر، فلم أتمالك وكتبت عنه هذه الأسطر القليلة لأذكر به واعترف باني قصرت في حقه، عليه رحمة الله خالصة على روحه وصبرا جميلا لعائلته ولكل من عرفه.

باريس في 27أكتوبر 2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى