دردشة يكتبها الأستاذ الطاهر بوسمة / كتاب الشاذلي القليبي “تونس وعوامل القلق العربي”
صدر اخير عن دار الجنوب للنشر كتاب للمفكر الشاذلي القليبي في نحو 200 صفحة من الحجم المتوسط مجزأ الى فصول ستة قرأته باهتمام زادني لتلك الشخصية المتواضعة حبًا واحتراما، لقد تولى الوزارة وقيادة العرب عامة لمدة غير قصيرة.
عرفته وزيرًا للشؤون الثقافية ومديرا لديوان الرئيس بورقيبة قبل ان يتولى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية عندما استقرت بتونس بعد زيارة السادات لإسرائيل ومقاطعة العرب لمصر.
وجدته في هذا الكتاب يعبر عن خواطر عدة ابتدأها بثورة الكرامة والعزة التي قامت بتونس وباركها في حينها بكلمة موجزة قصيرة القاها بمجلس المستشارين في اخر دورة له قبل ان ينحل، ابتدأها بالآية الكريمة: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). الاسراء 18).
ذلك هو معدنه الأصيل الذي لم يكن يخفيه عنا نحن الذين عاشوا في تلك الفترة، فترة الرئيس بورقيبة الذي كان له الفضل في استقلال تونس العزيزة وبناء دولتها الحديثة.
لقد كان أول وزير للشؤون الثقافية بعد تأسيسه لتلك الوزارة التي تجمع شات الجمعيات المدنية الثقافية المنتشرة وقتها في كامل ربوع الجمهورية من مدن وقرى وأرياف تنشط بدون تنسيق أو ضوابط، لان البلاد التونسية وقتها لم تكن محكومة من ابنائها بل كانت من الاستعمار الفرنسي محكومة.
فالمهم هو ما خرجت به بعد قراءتي لذلك الكتاب الذي اراده صاحبه للتفريج عن النفس بعد تجارب ومواقف متناقضة، عاشها من قريب أو بعيد وكان فاعلا في البعض منها بالتحديد،
إنه لم يكن يخفي إسلامه وإيمانه واعتزازه بالمحيط الذي ولد وتربى فيه، وكان يقوم بواجباته الدينية جَهْرًا على عادة التونسيين وكنت على ذلك من الشاهدين، إذ أنه ذات مرة لما كنت واليًا على القيروان، زارني فيها، زيارة عمل وتفقد استوجبت القيام بجولة في المدينة العتيقة، فأدركنا صلاة المغرب واستمعنا للمؤذن ينادي للصلاة وكنا على مقربة من أحد المساجد، فطلب مني بتأديب أن أسمح له بأداء صلاة المغرب، وهكذا دخلنا معا للصلاة، ومن حسن حظي أني كنت متهيئا مثله وشاركته فيها قيامًا بالواجب.
لم يكن ذلك وقتها بالأمر الهين ولم أتعود عليه مع غيره من الوزراء وكان البعض منهم يزور القيروان يوم جمعة ولا يطلب مثل ذلك أداء للواجب.
لقد بقيت تلك الحادثة في بالي محفورة رويتها لكم بمناسبة قراءتي لذلك الكتاب الذي تحدث فيه صاحبنا عن الإسلام كدين عمل وعبادة وأطنب في ذلك كثيرًا مبينًا سعة اطلاعا وتفقه في الدين، واعتزازه بالانتماء للإسلام وأعطى أجوبة مقنعة موثوقة لبعض القضايا التي يمكن الاجتهاد فيها.
فبمثل هؤلاء الرجال يمكن للإسلام ان ينتشر ويسود في صورته الجميلة ليسد الطريق على المتعصبين وقد انتشروا في القنوات التلفازية وأمواج الأثير الغير المرئية، يفتون بدون علم يضلون ويضللون ويزينون العنف والتقتيل المنهي عنه في الشريعة الإسلامية عملا بقوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) . ـ32 المائد
لقد ذكًر بالمقاصد التي كان أول من اختص فيها العلامة محمد الطاهر بن عاشور الذي لم ينل مكانه، بالرغم من تفسيره للقران الكريم وقد تميز فيه عن غيره من المفسرين وجعل منه موسوعة متكاملة غيرت المفاهيم في تلك المادة.
كما كان لمقدمة الاستاذ عبد عزيز قاسم للكتاب المذكور بعدا اضافيا قدرتها فيه وقلت في نفسي هل كان للمقدم ان يبدع بمثل ما ابدع هذه المرة، لو لم يكن هذا الكلام قد صدر من غير الاستاذ القليبي، إلى درجة ان بلغ به الحال أن يختار فقرة حوارية كان أجراها الكاتب مع الصحافية الفرنسية جينيفياف مول ( Geneviève Moll) التي قالت لمخاطبتها المتحدث عنه في نهاية الحديث، لقد كدت تدخلني في الإسلام (الصفحة 10).
ذلك هو الشاذلي القليبي الذي تعلم بالمدرسة الصادقية وأتم دراسته العليا بالسوربون فأتقن بذلك لغة المتنبي ولغة مليار في آن واحد، وتشبع بما تلقاه صغيرًا، ربما بكتاب الحي أو القرية مثل الجيل الذي ولد وتربى فيه.
لم أشأ ان أتعمق كثيرًا في مساره الآخر، وكان غزيرا ودائما، وفي قمة النجاح في كل المهام التي عهدت اليه، لتنطبق عليه مقولة المتنبي (وتصغر في عين العظيم العظائم)
لقد تعاملت معه سابقا في الثقافة والسياسة وبفضله أسست الفرق الجهوية للمسرح أينما كنت واليًا، بقفصة أو بالقيروان بعدما رممت قبلها فرقة الكاف للمسرح التي أدركتها تحتضر بعد نقلة الوالي الزميل عبد السلام القلال، والذي بالمناسبة أحييه كما حياه الكاتب الذي لم يغفل عن ذكره وشكره وتشرفت معه بالثناء.
أقول لمن يتيسر له ان يقرأ ذلك الكتاب عليه بالصبر والتبصر، لأنه سيكتشف رسائل عده ربما أراد كاتبها ان يرسلها لأولي الألباب، كي يتفطنوا لدقة المرحلة ويتداركوا الموجات التي أصبحت خطرا على الأمة الإسلامية وقد باتت هدفا ومرمى للجميع.
ذلك ما أردت ذكره بالمناسبة وأعترف له ولكم بالتقصير، لأني اكتشفت المعني بالكلام أكثر حتى بت على يقين من أنه وأمثاله كانوا للسلام أجدى من ألف عالم وعالم نستمع لهم خطباء على المنابر كل يوم جمعة بدون يكون لقولهم تأثيرًا.
وتذكرت ما قاله الشيخ محمد عبده بعدما عاد من زيارة لأوروبا، قولته المشهورة: ذهبت للغرب فوجدت إسلامًا ولم أجد مسلمين … ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكنني لم أجد إسلامًا!!».
أما ما جاء في بقية الفصول من تذكير بمواقف بورقيبة الذي كان له الفضل في تحريك السواكن وفتح باب الاجتهاد من جديد، فقد كان الكاتب يعود كل مرة للقران والأحاديث النبوية الموثوقة يلطف بها بعض المحاولات الجزيئة التي قام بها بورقيبة، ليعود بنا لأصول الدين، ويمكن لي الاستدلال على كلامة بالفقرة التي جاءت بالصفة92 و93 ، اذ يقول:
(والإسلام الذي شهد بالكرامة لبني أدم، جميعا لا ميز بين الرجال والنساء، ألم يكن أول دين أعلى منزلة المرأة داخل العائلة: أما، وزوجة، وبنتًا، ومكن النساء، بحسب موقعهن في العائلة، من قسط من الميراث؟
والإسلام، أليس هو الذي جعل لصلة الرحم منزلتها، في تماسك العائلات التي هي من لحام المجتمع؟
وكثيرا ما نسمع اليوم انتقادات موجهة إلى الإسلام بسبب قواعد الميراث أو لوضعية المرأة في مجتمعات إسلامية كثيرة.
نسي أصحاب هذه الانتقادات أنه لا ينبغي الحكم على أصول الإسلام بمنظار عقليات المجتمعات الغربية الحالية. ثم إنه عليهم أن يتذكروا أنما، مع الإسلام، أصبح للمرأة شأن في العصر الجاهلي: فقد نهى الوأد الذي جرت به العادة إذاك وأوصى بتعامل الزوجين برحمة ومحبة؛ هي لباس لزوجها وهو لباس لها؛ وأنه هو الذي جعل للام المكانة العالية في العائلة – أعلى حتى من مكانة الأب.
أما تعدد الزوجات -الذي كان شائعا في تلك الأزمنة -فالإسلام توخى فيه، كعادته-طريقة التدرج إذ حصر العدد في أربع ثم ربط ذلك بما يعسر الإيفاء به من شروط لصرف الناس عن هذه العادة، ففرض للمرأة منزلة في مجتمع كان الفاعلون فيه هم الرجال-والتدرج هو طريقة الإسلام المثلى، المساعدة على التطور، والتي تجنب المجتمع التمزق بفعل الفتنة،
وقضية التباين في الميراث بين الذكور والإناث تثير اليوم، في مجتمعاتنا ردود فعل مختلفة. والكثيرون يطالبون بإقرار المساواة. لكن معالجة هذه القضية بطريقة تهجمية على الإسلام، فيها تحد لما هو مقرر في القران، وقد يؤول ذلك إلى إشعال نار الفتنة. فالأفق تناول الموضوع بفكر مجتمعي، ومن داخل المنطق الديني، وبواسطة اجتهادات شرعية مسايرة لما عليه المجتمع الإسلامي من تطور في منزلة المرأة، بواسطة التعلم والظفر بالشغل والقدرة على الإسهام في نفقات العائلة) أنتهى كلامه.
انه بذلك يلخص تلك الحملة التي أعادها الباجي قائد السبسي للواجهة من جديد وقبل ان يتوفاه الله مجيبًا بذلك أهل الحداثة بما يرمون به المؤمنين.
أما مواجهة الإسلام للعصر والتكامل العربي، باستقامة الحضارة، ودور الجامعة العربية فيه وحرب العراق ويران وغزو الكويت وتلاشي الترابط العربي وما باتت عليه الأمة العربية فكانت جولة أخرى للمؤلف حدد فيها رأيه بجرأة وشجاعة، مبينا أسباب وقوع حكام العرب في ورطة كان للجامعة العربية فيها موقفا سلبيا.
وأنقل لكم فقرة ثانية عن رأيه في عمل جامعة الدول العربية بعدما تولى امانتها العامة لسنين كما جاءت بالصفحة 141 وفيها:
(وفي مجلس الجامعة، كثيرًا ما كانت تنفجر مساجلات في هذا الصدد. لم يكن يتعفف، أثناءها، خطباء عن مكروه القول، أو خشن اللفظ. فكان يطرأ، على أجواء المجلس، ما لا يتيسر معه بناء الثقة التي يحتاج اليها، عند مواجهة عظيم القضايا.) انتهى كلامه.
لقد خص بورقيبة بفصل خاص ولم يفرده وحده به، أذ شاركه فيه الرحوم فاضل الجمالي عن جدارة وقد كان له الفضل بالوقوف إلى جانب تونس أيام كفاحها وقد ردت له الجميل في محنته لما وقع الانقلاب على الحكم في العراق وقضي عليه بالإعدام وأتم حياته مكرمًا مبجلًا بأمر من بورقيبة.
وأخيرا اعترف لكم بأنني لم أكن متهيئا ولا بقادر لنقل بعض مما جاء بذلك الكتاب الذي شدني كثيرًا وتعبت في فك رموزه، لأني وجدت فيه حيرة خبير أرادها كوصية للشباب الثائر على أوضاعه يبحث له عن دليل.
تونس في 25 ديسمبر 2019