دردشة يكتبها الأستاذ الطاهر بوسمة/ ضرورة العودة للعمل باللزمة والمناولة بات أكيدا
ربما أكثرت هذه الايام من التدخل في الشأن العام بالتطفل والكلوف لأني وجدت الفضاء مفتوح ولم يتفاعل معي من أهل الذكر أحد ولو بالتلميح وقدرت أني مع ذلك لا يمكن ان استسلم بدون أن أسجل بعض الآراء ولو بالتلميح.
لقد بات من الأكيد الاعتراف بان الدولة أفرطت في التداين إلى الحد الغير المعقول وباتت مرتهنة في قراراتها للمؤسسات الدولية المالية والبنوك وسوف يؤاثر ذلك على مستقبلنا القريب وعلى الأجيال على المدى البعيد.
قد يكون ذلك بسب الفوضى التي تتبع عادة الثورات التي تطول او لأسباب هيكلية موروثة من وقت بعيد.
سأبدأ بالأسباب وربما فكرت الحكومات المتتالية ولكنها لم تجد الجرأة وقتها لأن الفوضى عمت وكثرة التجاذبات أجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع وربح الوقت وتأجيل الحلول لأجل بعيد وأظن أن تلك الآجال حلت ووجب التفكير الجدي الذي ليس منه هروب.
وللتخفيف من التداين أقول كان على الدولة العودة الى اللزمات كما بات به معمول في كامل الدول المتقدمة أو التي تريد النمو، والتي سبقتنا في التدبير، انها تخلصت من التعهد وحدها بالمؤسسات المكلفة التي ليس لها مساسا بالسيادة الوطنية ويمكن ان تعهد بها للخواص حسب كراس شروط ولآجال معلومة لا تتجدد الا باتفاق الطرفين.
ولنأخذ على سبيل المثال الطرقات السيارة التي تعتبر تونس متخلفة فيها لأنها تتطلب تمويلات كبرى وعناية دورية وحسن إدارة وتسيير.
كان من الممكن ان تعهد بإنجازها في نطاق مناقصة دولية بالشروط المعمول بها في ذلك المجال وتحدد حقوقها وحقوق الملتزم الذي عليه بالتفتيش على التمويل اللازم مقابل استخلاصه لمعلوم المرور لآجال تحدد حسب التكاليف والربح وما يجب من عناية مستمرة وتطوير للأساليب.
وللتقريب لنأخذ الطريق المؤدية مثلا من النفيضة للقيروان فانه يمكن التنازل عن استغلالها للخواص تونسيين او اجانب بعد التعهد ببنائها طبق كراس شروط والتنازل للفائزين باستخلاص ما يمكنهم من استرجاع راس المال والفائض المصروف والربح المعقول على آجال طويلة ومتوسطة مثلما سبق لإنجاز خطوط سكك الحديد في زمن حكم البايات بين تونس والجزائر وتونس المرسى عبر حلق الوادي وفي بقية التراب التونسي التي كانت الخدمات فيها حسن بكثير من الان بالحجة والدليل.
ويكون ذلك في أغلب القطاعات الغير استراتيجية مثل الدفاع والأمن والصحة والتعليم الذي لا يمكن التنازل عنها لأنها تهم السيادة الوطنية لتبقى من مشمولات الدولة، وتلقى عندها منها ما يتعين لتتفوق على للخواص المسموح لهم بإنشاء مؤسسات موازية في الصحة كالمصحات وفي التعليم كالمدارس والمعاهد والجامعات التي لا يمكن ان تتفوق عن العمومية التي عليها أن تقيم الدليل.
ويمكن أن يكون ذلك أيضا في الطاقة وتكرير النفط والكهرباء والماء وتصريف المستعمل منها في النظافة والتطهير والتبغ والوقيد وحتى في الموانئ والمطارات التي لم تعد الدولة تقدر عليها لان ذلك ليس من اختصاصها لو كانت تعلم أن ذلك الزمن قد فات ولن يعود.
أما بالنسبة للمناولة وبعد فوضى الثورة وضعف الدولة فقد تم إدماج كل المشتغلين بتلك الطريقة في عملة الدولة مما أثقل التكاليف وباتت الحكومات المتتالية تقترض لدفع اجور الموظفين والمشتغلين وتدهورت الموازنة وما زالت تزيد ونرى غيرنا كيف يتخلص من الخدمات مثل منحه للتأشيرات التي كانت من اختصاص القنصليات فبات تقوم بها شركات مناولة خاصة وبقيت القنصليات تراقب ومن بعيد.
تذكرت وأنا اكتب هذه الدردشة لما عينت واليًا على الكاف ووجدت نفسي رئيسا مديرًا عامًا لسبع شركات بصفتي رئيسا لمجلس الولاية المساهم فيها بنصيب مع البلديات التي يتولى الوالي عليها الإشراف حسب القانون، ومنها شركة النقل الجهوية على سبيل المثال وشركات التجارة والنجارة والبناء والإسكان والتعمير والسياحة وتنمية الإنتاج الفلاحي وتربية الماشية ومما لم أعد اتذكر أسماءها الان لبعد التاريخ.
لم أتردد لحظة وقررت التخلي عن رئاستها كلها لفائدة المديرين بعد أن فرطت لهم في رقعة تخول لهم التفويض.
وأتذكر أيامها وقد انتهت سياسة التعاضد والبلاد ما زالت في أخذ ورد في مخلفاتها تموج، أن جاءني العديد من هؤلاء المديرين متعجبين وكل منهم يحاول إقناعي بالبقاء عليها كرئيس لان صفتي ستحميهم وبدونها ستصبح مثل الآخرين، فكان جوابي بأن للوالي اختصاصات سيادية تكفيه لتشديد الرقابة والسعي لكي تسير الأمور طبق التراتيب والقانون ولن يقلل ذلك من سلطة الوالي على كل الإدارات والمؤسسات لأنه المسؤول عن حسن اداء دورها كما هو مفروض.
كان الولاة وقتها يتبارون في التدخل المباشر أنشأوا شركات للبناء والنجارة والتجارة والنقل العام والسياحة وفي كل ما كان مفقود، وقد أدت دورها في وقتها، ولكنها حالات استثنائية فرضتها الحاجة والظروف وكان يجب ان تنتهي وقد انتهت في كل الولايات التي عملت فيها واليًا من الكاف وقفصة والقيروان وربما في ولايات أخرى ولم تتعطل الأمور، بل أمكن لبعضها ان تقوم بدورها وتستمر وتحقق أرباح وبقي البعض يتخبط في الديون لان غطاء الدولة وسوء التصرف فيها أنهاها للتفليس.
ولذا أقول وباختصار شديد كان على الدولة ان تتجرأ وتنهي تدخلها فيما لا يعنيها والتغطية عن سوء التصرف وتتحول إلى رقيب.، وأتساءل عن مصلحتها في امتلاك البنوك التي تؤدي بها للمحظور وتتحمل فساد المسيرين كما جرى في البنك التونسي الفرنسي وقد بات قضية تهدد الدولة في علاقتها مع الخصوم.
كان عليها ان تعود لأقوال المؤرخ الكبير ابن خلدون في مقدمته فيما معناه، مشاركة الدولة لمواطنيها في التجارة والفلاحة والخدمات يجر إلى افلاسها وإفلاس المواطنين. وكل عام وأنتم بخير.
تونس في 28 أكتوبر 2019