حول عيد الغدير
بقلم: محمد الرصافي المقداد
لمعرفة حادثة الغدير، ما تكتسيه من أهمّية بالغة على الدين الاسلامي، عقيدة وشريعة وسلطة، ومدعاة تجاهلها من طرف قسم كبير من المسلمين، أقول: حورب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سُنّته بمختلف الأساليب والطرق، ولئن كانت الغاية في بداية الحرب عليه، خافية على أغلب الجيل الأوّل من صحابته، إلا أنها ظهرت بعد ذلك باستهداف عترته الطاهرة عليهم السلام، ومن تبعهم من صحابته الكرام، فلم يُرى أشدّ عليهم في ذلك من القرنين الأوّل والثّاني، تحت العهدين الأموي والعبّاسي.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان المفكّرة، والباحثة عن الحقيقة الكامنة وراء ذلك الإستعداء، هو: لماذا كلّ هذا الحيف والتطاول على هذا المقدّس، وسُنّته هي المصدر الثاني من التشريع الإسلامي، ومن دونها سيفقد الوحي المُنْزلِ بياناته، في تفاصيل أحكام الدّستور الإسلامي العباديّة والمعاملاتيّة؟
الجواب يكمن في إجراءات حرق الأحاديث(1)، المروّية مشافهة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، ومنع روايتها بالتضييق على جيل الصحابة في تبليغها، وتهديدهم بالعقوبة إن فعلوا ذلك، زمن الخليفة الأوّل والثاني، استكمل بقيّتها الخليفة الثالث بحرق المصاحف، وما حوته من تفاسير أسباب النّزول المرويّة عن النبيّ مباشرة، والدّافع إلى ذلك محوِ كل أثر دالٍّ، على فضائل مستحَقَّةٍ لصفوةِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، خصّهم الله سبحانه بها، ودالّة في مضمونها على الإمامة والحكومة في الأمّة الإسلامية.
جرّاء ذلك ابتليت السُّنة النبوية عند الصحابة ببلاءين، بلاء منع روايتها وعدمُ تدوينها، وهو ما نتج عن تلك الإجراءات الظالمة، تناقصها رواة وأحاديث، وكان بلاءها أشدّ في زمن معاوية وبني أميّة، حيث انفتح على ما بقي من صحيحها، باب الكذب والإفتراء فيها، فوضعت روايات سقيمة مسيئة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللإمام علي عليه السلام، الهدف منها اسقاط عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبالتّالي نفي عصمة من دونه من صفوة أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا، وزحزحتهم عن مقامهم الذي أهّلهم الله له، وقد نجحوا في تربية أجيال عقيمة، أحاطت بها سوْرةُ حُكّام، استهانوا بالدّين وأهله، أثبتت سيرتهم أنه لا مقدّس عندهم، يردعهم عن ارتكاب جرائمهم، فسمّوا وقتلوا سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين، وقتلوا وعذّبوا وسجنوا وشرّدوا كل من طالته أيديهم الآثمة، من يمُتّ إليهما بصلة قرابة أو ولاء، ولم تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة، والتاريخ على غبنه كشف لنا نماذج من جرائمهم، واستفحل الأمر أن تجرّئوا على بيت الله الحرام، فرجموا الكعبة بالمنجنيق، وخرق خليفتهم كتاب الله بالنشّاب، وبثّت جلاوزتهم رعبهم في الآفاق، فلم يأمن تحت سلطانهم ساكن مدينة أو ساكن بادية، وضاقت السّبُلُ بالقابض على ولائه لأهل البيت عليهم السلام.
سيرة حكام إتخذوا من معاداة الصّفوة الطاهرة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سُنّةً توارثوها ظالم عن ظالم، والغاية منها إسقاط حقوقهم ومحو آثارهم ومتعلّقاتهم، من دورهم ووظيفتهم في الحكم بما أنزل الله في أمّة جدّهم، وكان ذلك سبب كل ذلك العداء تجاههم، ومن هنا نفهم، أن العُقدة التي ركِبت في قلوب الحاقدين على أهل البيت عليهم السلام، جاءت من باب السياسة والحكم المنْحرِفيْنِ عن منهاجهم، والمتنكّبَيْن عن صراطهم المستقيم، ولو أمرنا الله بدل مودّة هؤلاء الأطهار، معاداتهم والتّصدّي لهم، لما جاؤوا بأكثر مما فعلوه بهم.
من بين التحريفات التي لحقت بالإسلام، نتيجة الممارسات المشار إليها اختصارا – ومن بحث في هذا المجال عثر على المزيد من الدلائل المؤيّدة – مسألة الولاية، طمسا لها، وإسقاطا لوجهتها الأولى، في تعيين واجب من الله لصفوته الطاهرة، بما يقتضيه الظرف، من لزوم ذلك الإجراء، حفظا لمُكوّنِ الدّين، وضمانا لإستمراره في الأجيال، دون عائق يحول بينها وبينه بأي شكل كان، ( إنا نحن نزلنا الذِّكر وإنّا له لحافظون)(2) فنزول الذّكر كان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظه يكون من الإمام المستحفظ (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)(3).
لم يكن تعيين الإمام علي وتنصيبه في آخر المطاف، ليحدث مفاجأة بين عموم الصحابة، فسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه، تؤكّد أن الوحي بصدد إعداده تعهّدا وتعليما، ليكون خلفا له بعد رحيله، ومن كان مُقَدَّمًا على غيره في القيادة العسكرية والمدنية، ولم يقُدْهُ أحدٌ غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو حقيق بأن يكون وليّا لأمور المسلمين من بعد مرحلة النبوّة، عقلا ومنطقا وشرعا بالضرورة.
ومن قال بشأنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما خلّفه مضطرّا، في منصرفه إلى تبوك، وهو يعلم قيمته العسكرية، ليحمي المدينة من خطر المنافقين المتربّصين، (أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي)(4) ومنزلة هارون من موسى عليهما السلام معلومة في القرآن (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون اخي أشدد به ازري واشركه في أمري) (5) (وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ) (6)
فخصوصية الوزارة في الآية التي في سورة طه، والخلافة في سورة الأعراف، تعني بالضّرورة الحُكْمَ، ولا أخال عاقلا يتبنى مقالة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غادر الدنيا بلا وصيّة وقد أُمِرَ بها، تاركا مسألة الحكومة، وتعيين من هو أكفأ بتولّيها للناس، يدبّرونها بولاءاتهم العصبية، بل قد تسقط سريعا وهو ما حصل فعلا، بدأ من السقيفة ومخلّفاتها السّيئة، بل إنّ الله سبحانه لا يسمح له بذلك قطعا، وهو الذي أكّد على أن الحكم من مشمولاته وخصوصياته، ( ليس لك من الأمر شيء) (7) فإذا لم يكن للنبي من الأمر شيء مع الله، فكيف يكون لعرب قديمي عهد بجاهلية، قد ترسّبت فيهم نعراتها، ليُفوِّض لهم أمر قيادة مجتمع اسلامي ناشئ، بحاجة إلى رجل كفوء شجاع عالم قادر على سياسته، بما تقتضيه أحكام الله؟
بعد سلسلة البيانات والايضاحات التي تتالت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شخص الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، واقترب موعد رحيله من دار الدنيا، جاء الأمر الإلهي بإبلاغ أمره في تنصيب من يتولى أمور المسلمين بعده، وكان ذلك في الثامن عشر من شهر ذي الحجة، بعد منصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجته المعروفة بحجة الوداع، في السنة العاشرة من الهجرة – سبعون يوما قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم – بمكان يدعى غدير خمّ، وكان برفقته من المسلمين ما بين 10 آلاف الى 12 ألف حاج كانوا معه في حجته تلك.
نزل عليه أمين الوحي جبريل عليه السلام بأمر لازمٍ: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس) (8)
فما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى إيقاف الرّكب، والنزول عند دوحات قُمِّ ما تحتهن، وخطب تحتهن خطبة تنصيب علي عليه السلام، إماما وقائدا للأمة من بعده، جاء فيها بالخصوص: (أيُّهَا النّاسُ، مَنْ أوْلى بِكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ؟ قالوا: اللهُ وَ رَسوُلُهُ. – فمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده الى يد علي بن أبي طالب فرفعها – وقالَ ألا فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عاداهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ.)(9)
ولما انتهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خطبته وتبليغ الأمر الالهي للناس، نزل من على أحلاس الإبل وكان عليّ معه، وأمر الناس بتهنئته على ما حباه الله به من كرامة ولاية عامة في الأمّة، فطفق الناس يهنّؤونه، ولم يلبث إثر ذلك، أن نزل أمين الوحي جبريل عليه السلام بقوله تعالى: (اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) سورة المائدة الآية 3 وكان من بين بين المهنّئين عمر بن الخطاب الذي قال لعليّ عليه السلام: (بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.) (10)
لقد كان من المفترض أن تكون حادثة الغدير وخطبتها في المقام الأوّل من حيث كونها فوق التّواتر بكثير لو أنها اجتازت الموانع والعقبات التي وجدها رواة الحادثة وما فيها، وكم أكل باطل الحكام وأحكامهم الجائرة من حقّ كان سينفع النّاس لو نقل بأمانة أو تركت آثاره دون طمس، وهذه الاجراءات القمعية أصابت كثيرا من الأحاديث فأعاقت مرورها سليمة، دون العبث بصحّة ورودها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إنّ مسألة تعيين من يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم ضرورة يفرضها تكامل الدّستور الإسلامي، وتؤكّدها سيرته العطرة التي تعهّدت بمن سيلي أمور المسلمين من بعده رجلٌ أحسن إعداده لذلك الدّور، لم يختره عن رأي استقل به، وإنما هي سُنّة إلهيّة في الاصطفاء لم تخلو منها أمّة من الأمم، وما حصل في تاريخنا الإسلامي، من تجاوزات بحق النصوص التي بين أيدينا، وصوّبه الغاصبون للحكومة بعد ذلك، لم يكن سوى انقلاب مخطط له، بدأت علاماته تظهر بعصيان عدد من الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في خروج كما أمرهم في جيش اسامة بن زيد، كَبُر بعده بالتمرّد عليه في عقر بيته، وهو مريض خمسة أيّام قبل وفاته، تماما كما قال أحد المشاركين في ذلك الانقلاب: (كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا ). (11)
وطبيعي أن ينال هذا اليوم حظوة كبرى عند موجِدِه، فهو عيد الله الأكبر، لما تضمنه من إقامة ونائبه على الأرض في ولايته، يحتفل به المسلمون الموالون لعليّ وأهل بيته عليهم السلام، امتثالا لأمر الله في حكمه، الذي أراد به حفظ شريعته وهداية خلقه، بمن أعدّهم لذلك الدّور الجسيم، والإحتفال به سنّة دالّة، على قبول ميثاق الله الذي واثق به عباده الصالحين، فطوبى لمن بايع عليا مؤمنا بولايته وولاية ابنائه الأئمة الأحد عشر
المراجع
1 – تذكرة الحفاظ الذهبي ج1ص5
2 – سورة الحجر الآية9
3 – سورة يس الآية 12
4 – حديث المنزلة: صحيح البخاري كتاب فضائل اصحاب النبي باب مناقب علي بن ابي طالب ج5ص19ح3706 وكتاب المغازي باب غزوة تبوك ج6ص3ح4416 / صحيح مسلم باب فضائل الصحابة باب فضل علي بن ابي طالب ج7ص119ح2404/ سنن للترمذي ابواب المناقب عن رسول الله ج6ص86ح3724 وص90ح3731/سنن ابن ماجة المقدمة ج1ص136ح121….
5 – سورة طه الآيات 29/33
6 – سورة الأعراف 142
7 – سورة آل عمران الآية 128
8 – سورة المائدة الآية 67
9 – سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص79ح3713/ سنن ابن ماجة المقدمة باب في فضل علي بن ابي طالب ج1ص136ح121/مسند احمد بن حنبل مسند علي بن ابي طالب ج2ص71ح641وص662ح950وص268 ح961ومسند بني هاشم مسند عبد الله بن عباس ج5ص178ح3061و مسند الانصار حديث بريدة ج38ص32ح22945 ومسند الانصار حديث ابي ايوب الانصاري ج38ص541ح23563
10 – مسند أحمد اول مسند الكوفيين حديث البراء بن عازب ج30 ص430ح18479
11 – تاريخ الطبري ج2ص578