بكل جرأة يكتبها محمد عبد المؤمن / بين مثالية قيس سعيد ودهاء الغنوشي …تونس الى أين ؟
كتب محمد عبد المؤمن
عندما احتد القتال بين المسلمين فيما بينهم في معركة صفين واحس معاوية بانه في طريقه للهزيمة قدر فدبر ثم استشار عقله المدبر عمرو بن العاص داهية العرب حينها فوجد له الحل.
عمد معاوية الى رفع المصاحف على الرماح ورفع شعارا في وجه علي كرم الله وجهه ” فلنحكم القرآن”.
طبعا ليس علي من يرفض تحكيم القرآن لكنها السياسة عند معاوية وعند عمرو بن العاص .
هذه الحادثة تذكرنا بقصة اخرى لمعاوية وهو لا يقل ذكاء وحنكة سياسية عن مستشاره حيث انه اجلس ابنه يزيد ليعلمه ويدربه على فنون الحكم والسياسة والسلطان.
فقال له لا تقوم عليك مائة الف سيف ان لم تكن مضطرا لذلك فلتكن بينك وبينهم شعرة ان شدوها ارخيتها وان ارخوها شددتها.
معاوية وعمرو بن العاص لهم صورة تتكرر في كل زمان وفي كل مكان هي المواجهة بين الدهاء والمثاليات.
فهتلر وصل للسلطة وصار الحاكم بأمره في ألمانيا بفضل الديمقراطية او ما سماه فلاسفة الفكر السياسي بالديمقراطية الشعبوية وبها وصل ترامب وماكرون في فرنسا.
عالمنا اليوم يعيش موجة الشعبوية او الديمقراطية الشعبوية ولكل بلد خصائصه فان كان ترامب بناها على المال والبقرة الحلوب التي سيحلب ضرعها ويأتي منها بمئات مليارات الدولارات فان هناك بيئات اخرى توظف الدين والدين ليس افيون الشعوب بل هو الشرعية والمشروعية معا ومن نصب نفسه ناطقا باسم السماء تبعه القوم مغمضي العيون صم الاذان .
السؤال هنا: هل ما يحصل في تونس الآن يندرج ضمن هذا ؟
في الصورة الكبرى نعم لكن في التفاصيل هو مختلف كثيرا.
فهناك توظيف . ولو أخذنا النهضة كمثال فهي لم تكسب شعبية بمشاريع متميزة ولا انجازات تذكر بل لأنها حركة دينية او كما تقول ذات مرجعية دينية.
في مقابل هذا هناك صورة اخرى لا تقل عنها شعبوية لكنها الشعبوية المثالية فهي مدينة الفارابي وجمهورية افلاطون لكنها ابدا لن تكون مملكة ماكيفيلي.
تونس اليوم تعيش صراعا بين شعبويتين في شخوصها جديدة لكن في سرديتها قديمة بل قديمة جدا فهي بين المثالي الحالم الذي تشغله البغلة في العراق ان تتعثر فيسأل عنها وبين شعبوية اخرى غارقة في الماديات لكنه المتخفية وراء الوقار والهيبة والسكينة والتقوى والورع.
التقوى والورع لا علاقة لهمات بالسياسة فهي شيء آخر وايضا لا علاقة لها بالمثاليات والاحلام فهي كابوس كبير ومزعج ومخيف.
بين الشعبوية الاولى والشعبوية الثانية هناك بلد للأسف يضيع في التفاصيل وفي صراع بين شيخين الاول يعلم الجميع كونه تلقائي يقول ويتكلم دون حسابات ويخاف يوم لقاء ربه وان لم يتدثر بالدين والمقدس والشيخ الثاني يحمل زي الدين لكنه مشغول بالدنيا والحسابات والعقابات وبالتحالفات والصفقات وايجاد الفتاوى لتحليل كل شيء وجعل ما هو غير متاح متاحا وممكنا ومسموحا بل يثاب عليه ان لزم الامر.
منذ اكثر من قرن نشر الفيلسوف محمد اقبال كتابا سماه التجديد في الفكر الديني ولم يقل التجديد الديني لأنه يفصل ين الدين والفكر الديني وفيه تحدث عن الفتوى والاجتهاد ورغم ان الوضع غير الوضع الا انه وضع الاصبع على الداء وهو ان المعضلة الكبرى هي عدم التفريق بين الدين والفكر والجيني.
فالدين هو الذي نزل به القرآن وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم اما الفكر الديني فهو ما وضعته المدونة الفقهية في عصر الكتابة والتدوين أي عصر الدولة حيث صار هناك بدل مصطلح الصحابة مصطلح آخر هو الفقهاء ثم فقهاء السلطان .
وكل من يخرج عن هذه الدائرة يكون مصيره قاسيا كما حصل مع ابن المقفع او مع من اتهموا بكونهم زنادقة الاسلام وهم في الحقيقة المفكرون الذين تجرأوا وفتحوا ملفات لا يجب ان تفتح لأنها ستزلزل الارض من تحت اقدام السلطان.
المعركة اليوم ليست بين شخصين او قصرين في باردو وقرطاج بل هي معركة قديمة جدا بين عقلية الراعي والرعية وعقلية المواطنة .
هي بين عقلية القطيع وعقلية الفرد المفكر .
هي بين عقلية السياسة كوسيلة والسياسة كهدف.
الغرب نفسه مر بهذه التجربة وعاشها وعانى منها كثيرا لكنه اتخذ قراره بإنهائها أي اخراج الدين من السياسة وجعله تجربة ذاتية كما يقول محمد اقبال وهو ما سمي باللائكية او العلمانية وهي لا تعني مطلقا الالحاد بل هي تهم اسقطت من الفكر الفقهي الرجعي .
منح الفاتيكان سلطة ذاتية وروحية لم يكن اعتباطا بل هو فصل مكاني لكنه في الاصل جوهري ومصيري فلا احد يمكنه الحديث باسم الدين بل يمكنه الحديث عن الدين لا اكثر .