تحليل إخباري : أثر أحداث الجزائر على المغرب وتونس
كتب نزار بولحية كاتب وصحافي من تونس (عن القدس العربي )
إن كانت علة وجوده في موقعه الحالي هي أن الله اختاره منقذا ومخلصا في بلد المليون ونصف المليون شهيد، مثلما ادعى منذ أيام مسؤول رفيع في الحزب الحاكم، أم كان الأصل أن جنرالات العسكر هم الذين قرروا في لحظة ضيق، نفض الغبار عنه، والدفع به لأعلى هرم السلطة؟ أم كانت طموحاته الشخصية وعلاقاته الخارجية الممتدة، هي وحدها التي قادته للمنصب؟ فإن كل تلك القراءات تبقى قابلة للتحليل والنقاش، لكن في وقت لاحق.
فما يهم الجزائر اليوم ليس كيف دخل بوتفليقة الحكم، بل متى وكيف سيخرج منه؟ ولأن الأمر ليس مرتبطا بإرادة الشخص فهو ليس أيضا مصدرا لقلق الجزائريين فحسب، بقدر ما هو الشغل الشاغل للكثير من جيرانهم بالمثل. والسبب معلوم فما يجعل الجيران في المغرب وتونس بالتحديد يتابعون باهتمام بالغ مسار أحداث تبدو داخلية بحتة هو ليس فقط كونها تقع على مرمى حجر من حدودهم، بل لأنهم ليسوا متأكدين من المدى الذي قد تأخذه أو تتركه بالاخير على الدور الإقليمي للجزائر، وعلى سياساتها ومواقفها من كثير من القضايا، وربما حتى النزاعات والخلافات التي تجمعهم بها.
إن أكثر ما يقلقهم هو أنهم يدركون أن الماسكين بخيال الرئيس الجزائري، لا يملكون مثل أي مقامر خاسر جرأة الإقرار بفشلهم، ويرفضون تحت شتى الذرائع التسليم بما يرونها في قرارة انفسهم حقيقة، مفضلين النطق باسم الرئيس، ونسب كل التصرفات والقرارات التي يأخذونها بالحق والباطل لحكمته وعبقريته العظيمة، وتوجيهاته السديدة، ونظرته الاستراتيجية الفذة، التي لم تعرف أرض الجزائر مثيلا لها على مرّ العصور. وهم يعرفون جيدا أيضا أن لاشيء يدل، حتى الآن على الاقل، على أن المختفين وراء ذلك الخيال قد يقررون بمحض إرادتهم، وفي لحظة صحو خارقة لضمائرهم، وقف تلك المسرحية السخيفة التي انخرطوا فيها في العاشر من الشهر الجاري، حين قدموا ترشحه، ويتخلون عنها معلنين اعتذارهم للجمهور عن لعب أدوار مغشوشة، هم أول من يعلم أنها لم تعد تقنع أو ترضي حتى الأطفال الصغار في الجزائر. ومع أن هؤلاء مستمرون في ذلك، إلا أن ارتباكهم بات ملحوظا، وهم يرون بوضوح كيف تنحدر كرة الغضب وتتعاظم يوما بعد آخر، ما قد يوقعهم في مزيد من الحماقة والارتباك المدمر، الذي لن تكون تونس والمغرب بمنأى عن تداعياته.
الماسكون بخيال الرئيس الجزائري لا يملكون مثل أي مقامر خاسر جرأة الإقرار بفشلهم، ويرفضون التسليم بما يرونها في قرارة أنفسهم حقيقة
فقبل أن يغادر الرئيس الاحد الماضي إلى سويسرا في رحلة علاجية جديدة، بحسب ما ذكره بيان رسمي، كانت صوره تنزع من اللوحات الدعائية في بعض الشوارع، وتداس تحت الأقدام، وسط دهشة وصدمة وذعر رجالات الحلقة المحيطة بالزعيم. والمشكل أنه حتى لو لم تمنع الشرطة المحتجين، كما فعلت ظهر الجمعة الماضي من الزحف على قصر المرادية، فإنه لم يكن ممكنا لهتافات الجزائريين الذين خرجوا للاحتجاج على مهزلة العهدة الخامسة، أن تصل إلى مسامع المعني المباشر بها، أي الرئيس بوتفليقة نفسه. فالرجل الذي يلف الغموض مصيره، ويعد وضعه الصحي سرا مطبقا من أسرار الدولة، لا يحق لأحد معرفته، أو حتى التحقق مما إذا كان الرجل حيا، أم أنه في عداد الموتى الفعليين، أو ربما السريريين، ليس قادرا بكل تأكيد على أن يدرك ما الذي يجري من حوله، وما الذي يريده بالضبط، فضلا عما تطلبه منه الجزائر الآن بالذات. ولاجل ذلك لا يبدو غريبا أن ينسب له أي موقف، أو رد فعل على الاحتجاجات التي غمرت مدن الجزائر، حتى إن كان هو آخر من يسمع أو يعلم أصلا بوجود محتجين على قرار ترشحه مجددا للرئاسة، والذي لا شيء يثبت أيضا أنه كان على وعي أو إدراك به.
ومادامت حلقة ضيقة ومحدودة من الجنرالات ومن ذوي القربى هي التي تستثمر في صورته وخياله، فهي التي تواصل تقديمه للجمهور الجزائري كسوبرمان أو ساحر باستطاعته أن يجترح المستحيلات السبعة كأن يظهر في موضعين متباعدين في وقت واحد، أو أن يجمع بقبضة يده عصرين مختلفين. ولكن كيف يمكن لعصر السحرة أن يستمر في زمن السماوات المفتوحة ووسائل التواصل والثورات الرقمية والمعرفية التي تهز العالم؟ ألم يفقد ذلك العهد بريقه وسطوته وتأثيره؟ ثم هل مازالت الشعوب اليوم تصدق السحرة وتقف مبهورة بحيلهم وألاعيبهم وارأجيفهم؟
لقد خرج التونسيون قبل ثماني سنوات لطرد الساحر الذي خدعهم وأعمى بصائرهم لأكثر من عقدين، واضطر المخزن في المغرب لتعديل دستور كان ينص على أن شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته. ولكن الجزائر ظلت على حالها ديمقراطية شعبية تناقض نفسها بنفسها، وتنفخ في صورة ساحر يصور خالدا لا يبلى ولا يفنى، مثل باقي الخلق. والمشكل الان هو أن هدير الغضب على العهدة الخامسة يجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات. فلا أحد من الجزائريين يعلم إن كانت تلك المظاهرات ستبطل السحر وتنهيه بالكامل؟ أم أنها ستستفز المشتغلين عليه لإخراج ساحر بديل في اللحظة المناسبة، وتقديمه على أنه خليفة المنقذ والمخلص. ولا أحد يدري بالمثل في المغرب أيضا إن كان أي تغير في المشهد الجزائري سيقود عاجلا أم آجلا لحلحلة الخلافات التي تعمقت على مرّ السنين بين البلدين، وفي مقدمتها ملف الصحراء وموضوع الحدود المغلقة بينهما، مع أن الكثيرين يأملون ويتطلعون لذلك.
كما أن لا احد يعلم في تونس أيضا إن كانت الشقيقة الكبرى ستظل على عهدها ظهيرا وسندا لديمقراطية رخوة، وستبقى بالخصوص على مواقفها القابلة لوجود الإسلاميين التونسيين في السلطة. وربما كان الثابت الوحيد وسط كل ذلك الغموض، هو أن الجيش سيظل صاحب الكلمة العليا في السياسة، ولن يتخلى عن الدور الذي مارسه بشكل مكشوف أو من وراء الستار. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما الخطة البديلة التي جهزها جنرالاته لمرحلة ما بعد بوتفليقة؟ وهل أنهم مستعدون فعلا لتكرار العشرية الحمراء مرة أخرى والدوس على إرادة الجزائريين في الحرية وفي الحق في اختيار حكامهم؟ ثم كيف سيكون موقفهم من الجارة الصغيرة تونس والجارة المزعجة المغرب؟
إن زيارة رجل الجيش القوي الفريق قائد صالح للإمارات ستة أيام بعد إعلان ترشح بوتفليقة لعهدة جديدة، التي لم تتسرب عنها معلومات كثيرة، تترك الباب مفتوحا على كم واسع من التأويلات، بحكم المواقف المعروفة لأبوظبي من الثورات العربية عموما ومن تجربة تونس بالخصوص، ثم الفتور الملحوظ منذ فترة في علاقتها بالمغرب. ومع أن ذلك لن يعني بالضرورة أن الجزائر قد تضع يدها بيد الامارات في سياق إعادة صياغة تحالفاتها، إلا أنه قد يكون مؤشرا قويا على أن حلف الثورات المضادة لن يتوانى عن إجهاض ثورة جزائرية مرتقبة تماما، مثلما سعى ويسعى جاهدا لفعل ذلك في تونس والمغرب. والمؤكد أنه متى حصل ذلك، لا سمح الله، هو ان جزءا كبيرا من مصير الجارتين سيتقرر بحسب ما سيحصل حينها في الجزائر.