الإمام الخميني من الثورة إلى سلطة الفقيه
بقلم: محمد الرصافي المقداد
لقد مرّ من هنا هكذا يبدأ المُحدِّثون في سرد الأحداث، عند ذكر سيرة شخصيّة تاريخية مهمّة، تركت بصماتها واضحة في حياة أمّة، وامتدّت آثارها إلى غيرها من أمم وشعوب العالم، ورجال الإصلاح في البشرية بعد الأنبياء وأوصيائهم معدودون لقلّتهم، كما جاء في الأثر: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) (1) بما مفاده، أن اللطف الإلهي تبقى نفحاته قائمة بعد اختتام النبوة، وزمن غيبة الإمام هاديا ومرشدا للمسلمين، ولو على بعد من الزّمن، أكثر من ثلاثة أجيال (على رأس كل مائة سنة) مباركا صحوتهم، ومسددا نهضتهم في سبيل قيم دينهم.
وقد شهدنا في هذا العصر من الزمن ظهور مصلح، لم يكن أحد من المسلمين ليشكك في صلاحه، لولا الدعايات المغرضة التي أطلقها عليه أعداءه – الذين هم نفس أعداء الأنبياء والرّسل من المشركين والمنافقين – بهدف صرف النّاس عنه، وقد نجحوا في الحدّ من إشعاعه خارج موطنه، تفاديا لانتشار الوعي بفكره وإتّباعه، من طرف طلائع الأمة الإسلامية من علماء ومثقفين، لكنهم فشلوا في إحكام طوق الدعاية ضده، كي لا يتسرّب من أفكاره، ما يضرّ مشاريعهم الإستعمارية والتّخاذلية في الأمة، فلم تنجح محاولاتهم في طمس بريق فكره، بعدما بلغ عقولا لم تثنها تلك الحملات المغرضة، عن تلقّي فيض دعوته المباركة الصادقة، فإذا هي تزهر هنا وهناك رياحين وعي، ومشاريع أمل بمستقبل أفضل للأمة الاسلامية ودينها، وسرى ذلك ليشمل مستضعفي شعوب العالم، الواقع تحت هيمنة القوى الإستكبارية.
قد يعذر من لم يصله إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن هذا المصلح الكبير، وإن لم يذكر اسمه في النّصّ – كما يعتذر عادة بسطاء العقول- فقد كفى ذكْر قومه للدّلالة عليه، وهو ما اعترف به من أدرك ذلك، فمن كتب مقالا حينها في مجلة (المعرفة)، لسان حركة الإتجاه الإسلامي بتونس، بعنوان (الرسول ينتخب إيران للقيادة)، يعي جيّدا أن من عناهم الله في كتابه بالآخرين الذين لم يلحقوا بالعصر النبوي(2)، هم قوم سلمان المحمّديّ، وأنّ رجلهم الموعود الذي قاد ثورة شعبه الإيراني المسلم، هو الإمام الخميني رضوان الله عليه، اعتراف سرعان ما غيّبته عصبيّة الإنتماءات المذهبية وعُقَدُ الموروث المريض، فتحوّلت مناصرة الثورة الإسلامية إلى صمت رهيب من قيادة الحركة، ودفْعٍ من بعضها إلى الدّعاية ضدّها، خصوصا من عرفوا بميولهم التّيمية الوهابية، باستقبال ونشر كتابات معادية لها، تبنّى طباعتها وتوزيعها على البلدان العربية، النظام الملكي السعودي الوهابي، العميل للغرب والصهيونية، أملا في وقف نزيف مناصرة هذه الثورة الإسلامية، وارتداداتها الثورية بين الشعوب العربية والإسلامية.
أمّا من وصلهم خبر الثورة الإسلامية وقائدها ومشاريعه القرآنية، فلا عذر لهم يقدّمونه لشعوبهم وأمّتهم بعد تورّطهم في الاساءة إليها، كل حسب نسبة مشاركته في نشرها، وتكثيف الرّيب عليها، وقد ظهر من دلائل صدقها ما ظهر، بما يكفي مؤونة البحث عما وراء لك من إثبات حسن نيّتها، وقوام فكرتها وشمولية دعوتها، خارجة عن إطار المذهبية والتعصّب لها، إلى الإطار الإسلامي الشامل لجميع مكونات الأمة بعربها وعجمها، لا فرق بين هذا وذاك إلا بالتقوى، مشمولين جميعهم بالإهتمام والعناية والرّعاية، حقوقا وواجبات فما يجمعهم أكبر مما يفرّقهم.
هو بلا شكّ مقتفٍ أثر الإمام الحسين عليه السلام في نهضته المباركة، فقد كان يردّد دائما: (كل ما لدينا من كربلاء) خرج على يزيد عصره، ليفنّد مزاعمه في دعوته الخبيثة باتباع الغرب، ويفضح سياساته الهادمة للقيم الإسلامية في المجتمع، فيدعو شعبه مجددا إلى الإلتزام بقيم الإسلام المحمّدي الأصيل، الرافضة لأي شكل من اشكال مولاة أعدائه، ولم يكن الشعب الايراني المسلم ليتأخّر عن دعوته، فانضمت جموعه المؤمنة بقيادته إلى صفّه، بنيانا مرصوصا كزبر الحديد، لم تثنهم المحن والابتلاءات والتضحيات الجسام، عن بلوغ أهدافهم في العزة والكرامة، فحققوا تحت ظلّها أهدافهم، ونجحوا في خطّ طريق الإسلام الشمولي القويم، وبدأوا في إعلاء كلمة الدين الخاتم على طريقتهم.
لقد شكّل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الامام الخميني رضوان الله عليه، نقطة تحوّل فارقة في عصرنا الحديث، خصوصا وهو حامل رسالة الإسلام الشامل لكل أوجه الحياة، وفكرته في شموليته، تمثلت في دعوته إلى إقامة نظامه السياسي، بناء على نظرية ولاية الفقيه العادل، لتحدث ثورة في المفهوم السياسي للحكم في الإسلام، لتنقله من زمن سلبية الفقيه الكلاسيكي، ودوره القاصر على الفتوى، وانتظار أوامر السّلطان، والنزول عند رغباته، المخالفة في كثير من الأحيان لأحكام الإسلام، إلى الحكم بمقتضى فتواه، المطابقة تماما لأحكام الإسلام، وما الإسلام في حقيقته، سوى تشريع تناول جميع جوانب حياة المجتمع، من عبادات ومعاملات وأحكام، لا يمكن أن تبقى بدون أداة تنفيذية من جنسها، وهذا ما طرحه الإمام الخميني رضوان الله عليه على شعبه الإيراني وعلى الأمّة الإسلامية، من أجل النهوض بدينها وتسليم أهله قيادته.
لقد أخرج الإمام الخميني رضوان الله عليه الإسلام، من زوايا الذكر وخلوات التصوّف، ومنابر الدّعوة إليه، بإرشاد أفراده إلى ما فيه من قيم أخلاقية عالية، إلى ساحة العمل الثوري السياسي، في قيادة مجتمعاته نحو إرساء نظام إسلامي عتيد، استقر منذ بدايته على تحدّي القوى الشيطانية الغربية، وعلى رأسها أمريكا، وقد أثبت بمرور السنين جدارته بأن يكون نظاما إسلاميا، مبنيّا على أساس من الشورى الحقيقية، في اختيار مجالس إدارة الحكم تحت إشراف وليّ الفقيه، المنتخب بدوره من طرف مجلس خبراء القيادة.
نظرية الحكم في الإسلام أرساها الإمام الخميني رضوان الله عليه، على هذه القاعدة العمليّة، المستنبطة من أعماق القرآن الكريم، وحقيقة ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته عليهم السلام على الأمة، هي اليوم تفرض وجودها على نظريات الحكم الوضعية في العالم، وتثبت أنها الأصلح في إدارة شؤون الناس، وما عداها مجرّد ادّعاءات فارغة وأضاليل مقيتة، لم يستفد منها شعب حقيقة، وظل يتّبع تزاويرها، دون أن يحصل على مراده في العدل والأمن، لذلك أقول بأن هذا المصلح العظيم، وإن لبى نداء بارئه في 3/6/1989، قرير العين بأنه قد ترك وراءه نظاما عتيدا بفكره الأصيل، ورجاله الأوفياء، فهو يذلك حيّ، بمشروعه النّاجح المنقذ للأمة الاسلامية وقضاياها المصيرية، فلا يفوت مؤمن أن يلتحق بركبه السّائر نحو النجاح، مؤمنا بأن نظريته القائمة في الحكم، هي ما يحتاجه المسلمون في هذا العصر، ومن فاته ذلك، فلا يكونن أبدا من ضمن أعدائه الخاسرين حتما، فيشقى دنيا وآخرة، والعاقبة للمتّقين.
المراجع
1 – سنن ابي داود أول كتاب الملاحم باب ما ذكر في قرن المائة ج4ص313ح4291
2 – صحيح البخاري كتاب التفسير سورة الجمعة باب قوله وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ج6ص151ح4897/ مسلم كتاب فضائل الصحابة (رض) باب فضل فارس ج7ص191ح2546