محمد الرصافي المقداد يكتب : السياسة العالمية بين الترتيبات والمؤامرات

في هذا العالم الموبوء احرص على أن لا تكون عابثا بغيرك ولا معبوث بك، كما قال الإمام علي عليه السلام: كن في الفتنة كابن اللبون (1)لا ظهر فيُركب ولا ضرع فيُحلب.(2)

 

يتّفق معي أغلب المتابعين للشأن السّياسي العالمي، بأن تحوّلات كبيرة سوف تطرأ على الساحة الدّولية، سوف تغيّر الوضع الحالي، من هيمنة القطب الواحد إلى تعدد أقطاب، قد يفرضه واقع سُنن التاريخ في التغيير، وعامل القوة والهيمنة لم يدُم لسلطان، مهما قويت شوكته وامتدّت قدرته، فأين الفراعنة والنّماردة والقياصرة وخلفاء الباطل؟ كلهم ذهبوا بنفس الطريقة المذلّة التي ذهب لها أوّلهم تنمُّرا وعفرتة.

 

والسُّنن الكونية أو ما عُرِف بسنن التّاريخ، اقتضت أن يعلُوَ شأن ملك عقيم ما، ليهوي في النّهاية بما كسبته أيدي أصحابه وأتباعه، وأمريكا التي تتظاهر اليوم، بأنها لا تزال تمتلك القدرة على البقاء مهيمنة على العالم بقوتيها الإقتصادية والعسكرية، قد فقدت هيبتها تباعا في فييتنام، وتتالى سقوطها إلى أفغانستان، وخروج قواتها المفاجئ من هناك، ذكّرنا بخروجهم مع عملائهم من فييتنام أذلّاء مرعوبين، فقد مثّلت تلك الأيّام كابوسا حقيقيا لكل من حمل العلم الأمريكي، وعمِلَ تحته من العملاء الفييتناميين، ولو كان هناك عدل على الأرض، لكان القادة العسكريون والسياسيون الأمريكيون مقبوضا عليهم، ومحاكمون بتهم جرائم الحرب، التي أخذوا مشعلها عن الفرنسيين.

 

صحيح أن الأمريكيين لم يفضحوا أنفسهم بتصوير مشاهد الفزع والهلع من اقتراب دخول قوات  الفييتكونج الى العاصمة سايغون، لكن المشاهد القليلة التي رأيناها تغني عن بقيّتها، وتعطينا فكرة على انهيار معنويات القوات الأمريكية حينها، لقد كان خروجا قسريا فرضه الإنتصار الساحق الذي حققه الوطنيون الأحرار الشماليين، وتساقط الفارّين من العقاب من سلّم الصعود إلى الطائرة المروحية، ينطبق على الفارّين من مطار كابول، بتوتّراتهم وإكراهاتهم ووضعهم المخزي أمام أنظار العالم.

 

ولا شكّ في أن الإدارة الأمريكية قد بدأت في مراجعة بعض حساباتها، بعيدا عن منطق الإستعلاء، الذي دأبت على الظهور به أمام دول العالم جميعها، المصنّفَةُ لديها صديقة أوعدوّة على حدّ سواء، كأنها تريد أن تُخفِيَ حقيقة ما، أصبح يدركها كل من خرج عن هيمنتها، وفهِم أنها مجرّدُ فزّاعة باطل، ليس بمقدورها الصّمود طويلا أمام الحقّ وأهله، مهما تلوّنت وتمظهرت به من مظاهر خدّاعة، مراجعة إن صحّت تسميتها هكذا، ليست بذاك المقصد السّلمي في قراءة الواقع، بما يمليه من تصرّف سليم، وانّما يُرى تكتيكا عسكريا فرضه تفاهم سياسي، حصل بين حركة طالبان المصنّفة إرهابية أمريكيا، وبين الإدارة الأمريكية مؤلّف من أربعة فصول، ثلاثة أُعْلِن عنها وأُخفي الرابع.

 

وقد يرى البعض أن القرار الأمريكي بالخروج من افغانستان جاء مفاجئا، واقتضت مصلحة أمريكا، أن تُسارِع في وتيرة سحب قواتها من هناك دون مبرّر واضح، وهذا خطأ في قراءة الأحداث، تناسوا فيه الإتفاق المبرم – من أربعة فصول – على جِدّتِهِ في الدّوحة، بتاريخ 29/2/2020 (3) والذي يقضي بانسحاب القوات الأمريكية وردائفها من أفغانستان، في ظرف لا يتعدّي الأربعة عشرة شهرا، من تاريخ إبرام الاتفاق، يخفي وراءه هدفا أمريكيا مهمّا، تحاول الإدارة الأمريكية إخفاءه.

 

ما يمكن استنتاجه هنا أن الاتفاق الذي حصل، فرضته إكراهات إقليمية أمريكية، أظهرت للبنتاغون بأنه من الأفضل تركُ أفغانستان لأحد احتمالين، وكلاهما يساعد أمريكا في استراتيجتها، التي بدأت تُلائمها مع واقع أفغاني متحرّك وغير مستقر، يرفض تماما بقاء قوات أجنبية على أرضه، مهما كان المُبرّر لذلك:

 

الإحتمال الأول: فسح المجال لسيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، واخضاع جميع مقاطعاتها لإدارتها، وهو ما يمكن أن تصبح فيها أفغانستان، خصما مقلقا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، مرجّح أن تظهر في قادم الزّمن بمظهر العِداء الدّافع إلى عدوان جديد تهيئ له أمريكا أسباب استدامته، بتوفير مختلف الأسلحة لقوات طالبان، وفرض ضخ الأموال اللازمة لاستدامتها، من طرف الدّول التي كانت تموّل صدّام في عدوانه على إيران وهي معروفة.

 

ما يدفعنا إلى ترجيح الإحتمال الأوّل، لمخطط أمريكي يمهّدُ لإشعال حرب بالوكالة ضد إيران، هو ما تركته القوات الامريكية وراءها من عتاد عسكري ولوجستي، لم تكن مجبرة على تركه في كل الأحوال، على مدى الفترة التي أعقبت الإتفاق المبرم بينها وبين طالبان، وكان بإمكانها نقله بسهولة إلى أقرب قواعدها، خلال الأربعة عشرة شهرا الفاصلة، واكتفاء الإدارة الأمريكية بالقول بأن قوات طالبان استولت على كميات لا بأس بها من الأسلحة الأمركية المتطورة، يخفي مخططا أمريكيا خبيثا، وراء ترك تلك الترسانة المعتبرة.

 

وقد قال رئيس القسم الروسي في رابطة الشرطة الدولية( يوري جدانوف)، إن حركة طالبان تمكنت من الوصول إلى كمية كبيرة من الأسلحة، بعد توليها السلطة في أفغانستان، وكشف المسؤول الروسي، أن الحركة غنمت حوالي مليون قطعة سلاح خفيف، ونحو مليار قطعة ذخيرة، فضلا عن نحو 600 ناقلة جند مدرعة، وأكثر من 8 آلاف مركبة عسكرية للطرق الوعرة، وعربات مصفحة، كما استولت الحركة على حوالي100  طائرة مروحية من طراز Mi-17و Mi-24 من الحقبة السوفيتية، وعشرات المروحيات من طراز MD 500 Defender و16 مروحية بلاك هوك، فضلا عن العديد من طائرات النقل Hercules(4)

 

غير أن مصادر أخرى رجّحت أن تكون التّرسانة أكبر من ذلك بكثير، خصوصا إذا كانت متروكة من أجل جعلها خنجرا في ظهر الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

 

الإحتمال الثاني: عجز القوات الأمريكية والمتحالفة معها، عن ضبط الأمن واستقرار الحكم في أفغانستان، وظهور قوة جديدة هناك، بعد أفول نجمها في العراق وسوريا، وهي ذات نفس الفكر الوهابي الذي تبنته داعش من قبلُ، لكن هذه المرّة تحت اسم إمارة خراسان- وما يعني ذلك من استهداف لإيران من طرف داعش- ومن المرجّح أن تحُلّ محلّ طالبان، وهي النتيجة الأقرب لقراءة واقع أفغانستان في المستقبل القريب، وهذا يخدم أيضا السياسة الأمريكية المزعزعة لإستقرار المنطقة ككل.

 

وبناء على ما سبق، فإن موعد خروج القوات الأمريكية أيضا من العراق وسوريا بدأ يقترب بدوره، لكن بأي شكل ومبرّر؟ والوضع مختلف تماما عن افغانستان، ولا امكان لوجود طالبان أخرى، وداعش قد قضى عليها محور المقاومة، حلّ واحد بإمكانه أن يكون بديلا ومبررا لخروج تلك القوات الغازية، وهو ادخال المنطقة في صراع طائفي مقيت، وفوضى مجتمعية كبيرة، وهو ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية، من خلال فرضها قانون قيصر، حصار وعقوبات اقتصادية على سوريا ولبنان، لجرّ المنطقة إلى مناخ من اليأس في قلوب الناس، ووضعهم أمام خيار العصيان المدني.

 

المخطط الأمريكي لا يستثني الصين أيضا، فحدودها الغربية الوسطى، من مقاطعة (شينجيانغ) أو تركستان الشرقية (5) مع أفغانستان مرشِحة أيضا، لأن تكون مسرح معالجة على الطريقة الأمريكية، في زعزعة الأمن والإستقرار حسب تراتيبها، ومؤامراتها التي تستهدف عادة كل دولة، عبّرت عن استقلالها الحقيقي من الهيمنة الغربية، التي تشرف عليها الدّولة العميقة الأمريكية، والتي لم يعد خافيا على أحد، أن عائلات صهيونية تتحكم في سياساتها العنصرية والعدوانية لفائدة الكيان الصهيوني.

 

يبدو ان أمريكا فهمت جيّدا أن زمن اشعال الحروب والتاثير فيها بما امتلكته من تقنيات قد انتهى، وسباق الدول إلى التسلح بأحدث التقنيات قد بلغ أشده، ودول عديدة قد برهنت اليوم على أنها أصبحت منافسة لها، كإيران الإسلامية التي تنامت قدراتها العسكرية في إختصاصاتها المتعددة، بما فيها الحرب الالكترونية، وعليه فإن توجّهها الحالي تمثل في استغلال موقعها المهمين على المنتظمات الدولية، وتأثيرها المباشر على الدول الغربية الحليفة، والعربية المتذيّلة لها، ودول التّبَعيّة والعمالة الأخرى، باستصدار قوانين جائرة، لتركيع الشعوب المتمرّدة عليها، بتجويعها وانهاكها اقتصاديا، فهل سنشهد نشوء محور مقاومة اقتصادي، تكون الصين وروسيا وإيران وفنزويلا ودول أخرى، في مواجهة صلف وتعنّن الإدارة الأمريكية، كردّ وجواب على استراتيجياتها الجديدة؟

 

المصادر

 

1 – ابن اللبون: ابن الناقة إذا استكمل السنتين ودخل في السنة الثالثة، وابن اللبون لا يكون قد كمُل وقوي ظهره على أن يُركب، وابنة اللبون ذات ضرع لا يُنتَفَعُ به. لسان العرب ابن منظور بتصرّف

 

2 – شرح نهج البلاغة الإمام علي بن أبي طالب (ع) ابن ابي الحديد ج18ص83.

 

3 – نص اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان في الدوحة

 

https://www.aa.com.tr/ar/1750162

 

4 – مصدر هذا ما غنمته طالبان من أسلحة بعد تولّيها السلطة

 

https://arabic.rt.com/world/1266263-

 

5 – سنجان https://ar.wikipedia.org/wiki/

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى