قيس سعيد.. صلاحيات صغيرة وأحلام كبيرة!

كتب : نصر الدّين السويلمي

أسهمت نسبة 72% التي تحصّل عليها الرئيس قيس سعيّد خلال الانتخابات الرئاسيّة نسخة 2019، في دفعه إلى التماس صلاحيّات أوسع من تلك التي خوّلها دستور 2014، شجّعته على ذلك رؤيته المختلفة لمنظومة الحكم التي من الواضح أنّها تعتمد على مركزة القرارات عند رئيس الجمهوريّة، ثمّ لابدّ من الإشارة إلى أنّ برنامج الرئيس “الثالث” بعد الثّورة يبحث عن ركيزة دستوريّة للقيام بإعادة انتشار راديكاليّة، تستهدف حتى المصطلحات السّياسيّة التقليديّة التي ألفتها السّاحة.

المُطمئن أنّ قيس سعيّد لا ينطلق نحو رؤيته بخلفيّة دكتاتوريّة، بل على العكس يرغب الرجل في تقديم شيء ما لتونس ويرى وفق قدراته التنظيريّة الغير موصولة بالتجارب أنّ البلاد تتحمّل نظريّة حكم جديدة منزلة مسقطة، بل يعتقد أنّها الكفيلة بتحقيق طموح التونسيّين الذين يصارعون من 2011 على أروقة الانتقال السّياسي ويبحثون عن مدخل للشروع في انتقالهم الاجتماعي الاقتصادي، لكن الكثير من مراكز القوى الاستئصاليّة المربوطة في أغلبها بقوى الثّورة المضادّة وغرفها الخارجيّة تحول دون ذلك، هذا التحرّش المستمر بالتجربة يدفع القوى الوطنيّة كلّ دورة انتخابيّة جديدة إلى صرف جهدها في الدفاع عن المكتسب السّياسي وتأجيل الإقلاع الاقتصادي.

أمّا الغير مطمئن فالأكيد أنّها تلك الخرجات المستفزّة التي يقوم بها قيس تجاه بقيّة مكوّنات السلطة بل للساحة السّياسيّة بمجملها، عمليّة احتقار وتسفيه وصلت إلى حدّ الاعتراف بالثّورة فقط ومن ثمّ نسف التجربة التونسيّة العربيّة الرائدة من جذورها وتقديمها كمرحلة فاشلة بل عبثيّة والتبشير بمشروع هُلامي سيأتي على أنقاضها لينقذ البلاد وينتشلها من متاعب الانتقالات الديمقراطيّة الموضوعيّة إلى مصاف النّمور الإفريقيّة على شاكلة النّمور الآسيويّة. مشكلة الرجل الوطني الخلوق أنّه يحاول تحريك حزمة من الوشائج النّظريّة إلى ساحة الفعل والوقاع، وتلك ساحة لها شروطها ولعلّ الخبرة والدراية والتجربة من أولويّات تلك الشروط وهي الخصائص التي يفتقدها رجل قرطاج الأوّل وبدونها سنجد أنفسنا دولة “حقل التجارب” وليس دولة تتحسّس النجاح في غابة من الألغام.

هذا الثوب الرئاسي الدستوري الضيّق أقلق قيس سعيّد، وجعله يستعمل التجمّعات العامّة للنيل من بقيّة المؤسّسات وتقزيمها في الشارع، يفعل ذلك بعد أن تيقّن أنّه لن يستطيع الذهاب إلى تعديلات دستوريّة جذريّة بدعم من التيّار الديمقراطي وحركة الشعب فقط، تلك حقيقة أزعجت الرئيس الذي يرغب في تغيير الواقع بقوّة لكنّه يخجل من علاقته الحميميّة مع القانون الدستوري، إشكال دفع الرئيس إلى القيام بمحاولات جانبيّة تبدو عبثيّة إلى حدّ المستحيل، فهو بصدّد قوّة برلمانيّة على رأسها شخصيّة خبرت المعارك السّياسيّة طوال نصف قرن حتى لقّبها المتابعون بالتمساح، ليس ذلك فحسب، بل يبدو أنّ سعيّد فشل في إنتاج رئيس حكومة “قلّيل” يرضى بالمنصب ولا تهمّه الصلاحيّات ويتلذّذ بالدوران في فلك الرئيس، الأرجح أنّ قيس سعيّد تماما كما الراحل الباجي قائد السبسي، وقعا في شخصيّتين شرهتين للتكسّب السّياسي لا يشبعان وإن شبعا فيدّخران إلى الغد الانتخابي، تماما كالإسفنجة تمتصّ الحانات ولا تسكر.

نحسب أنّ الرئيس سيطمح وسيسعى وسيغمز ويستفزّ لكن في الأخير لن تسمح له أخلاقه الدستوريّة بالجنوح نحو الخطير والمصادم لتحقيق رؤيته، لذلك من الأفضل أن يتسلّح قيس بالقناعة ويحاول تقديم الإضافة من داخل المتوفّر الدستوري قبل أن تضيع سنوات العهدة “2019/2024” في الركض خلف خيط الدخان، ربما تسنّى لقيس العودة بكيان سياسي بعد الانتخابات المقبلة “2024” ومن ثمّ الشروع في تنزيل فكرته على جرعات ووفق ما يسمح به جرمه الحزبي في البرلمان، أمّا محاولة استعمال البرلمان الحالي لإحداث تغييرات جذريّة في نظام الحكم وبتعويل فقط على كيان عبّو والمغزاوي، فهذا نوع من الحرث في البحر.

على قيس أن يستوعب درس السبسي الذي قاد البلاد خلال حكومة الصيد من خارج روح الدستور، حين استعمل عرف المتفوّق واستحوذ على صلاحيّات رئيس الحكومة، لكنّه وحين ارتفع منسوب التمرّد عند الشّاهد واسترجع صلاحيّات رئيس الحكومة، عاد السبسي إلى حجمه الدستوري ولم تنفعه كتلة النداء ولا رئيس البرلمان ولا رئيس الحكومة الندائي الذي عيّنه هو بنفسه، وإذا كان السبسي المدجّج فشل في تغيير الدستور كما فشل في مخاتلته، فلا نعتقد أنّ النجاح سيحالف الرئيس الحالي في استعمال قرطاج لارتشاف السلطات لا بشكل دستوري ولا بأشكال التفافيّة، ذلك أنّ التجارب أثبتت بلا جدال أنّ المجلس التأسيسي هندس الدستور بأشكال ذكيّة وقويّة، اعتمدت الحبكة والتأمين وقرأت تفاصيل السّاحة ومتطلّباتها.

الرئيس القلق، أو ربّما الحاشية التي تخصّب قلق الرئيس، هذا هو عنوان الخرجات الأخيرة للسيّد قيس سعيّد، تحدثت مرّة عن رئاسة واحدة في تونس، وتلك إشارة تطالب بالتوقّف عن استعمال عبارة الرؤساء الثلاثة التي درجت منذ 2011، ثمّ إشارة أخرى طالبت بعض الأطراف باحترام الاختصاصات، ورد ذلك في بيان على صفحة رئاسة الجمهوريّة جاء فيه “.. وتمّ التأكيد خلال اللقاء على ضرورة تكامل عمل مؤسّسات الدولة لخدمة المواطنين واحترام كلّ سلطة لاختصاصاتها دون تداخل أو تضارب أو مضاربات سياسيّة”.تلك وغيرها مؤشّرات تؤكّد أنّ الرئيس مرّ بمرحلة قلق ربّما بعد أن تآكل الحلم النّظري الضخم وبدأ الواقع يشدّه إلى بدلته الدستورية الضيقة.

توصية اخيرة للرجل الخلوق، ايها الرئيس المنتخب، وانت المنتخب وستبقى المنتخب، وسنتصدى لمن يقول غير ذلك لأنه لا يجرحك كرقم عابر على التجربة وانما يجرح التجربة كرقم ثابت لا يتزحزح، أيها الرئيس نلفت عناية انتباهكم او نلفت انتباه عنايتكم الى وجوب القطع مع التجاهل في مسائل العبث الجنوني، لا يسعك ايها الرئيس ان تمارس الصمت الملغم أمام هذا الزئبق المتفلت الذي يدعو باسمك إلى نسف التجربة، هؤلاء الشطاحة والشطاحات الذين يروجون لأحلام السفهاء لا بأس ان تطل عليهم من قصر قرطاج وتخطب فيهم: أنه وبعد بسم الله الرحمن الرحيم، أيها الزئبق المطفوش انها ثورة فشل في خلخلتها هولاكو النفط الإقليمي ومأجوجه ويأجوجه من البضاعة المحلية المسمومة المخنزرة، عملوا طوال 10 سنوات بالليل والنهار سرا وعلانية ثم انتهوا كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.. ثم اختم خطبتك رعاك الله بالقول: ايها الزئبق عودوا الى منازلكم وانشغلوا بما يصلح أحوالكم بدل الهدّان على جبل بڨادوم.. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى