في تونس الفساد لغز والمحاسبة استثناء

الجرأة الأسبوعية – تونس :

يبدو المشهد السياسي ببلادنا أصبح أكثر قتامة مما نتصوره، في بعد انقضاء عشر سنوات الثورة العجاف، فلا الحكومة استقر بها نوى مشاكل المحاصصات الحزبية، ولا رئاسة الجمهورية استطاعت ان تكسر طوق الصلاحيات الضيق المحاط بها، والذي خنق مجال فعاليتها، ولا البرلمان قام بدوره كما يجب من أجل احترام الوطن وناخبيهم، سلطات ثلاث وجدت نفسها في بوتقة من تجاذبات وصراعات، لا تكاد تنتهي واحدة منها، حتى تبتدأ أخرى، وهذه علة النظام البرلماني اذا أحس نوابه أن مجال الحرّية لديهم مطلق، بحصانة اساءوا استعمالها، فتهجموا وشتموا فلم يسلم منهم حتى رئيس الجمهورية، كأنّما أجازت لهم الحصانة القيام بالاعتداء على غيرهم، وحتى على قانون المجلس نفسه.

وفوق ذلك كله شهدنا عليهم كيف يتصرفون بالغياب تماما عن جلسات البرلمان، وعندما يحضرون لمجرد تسجيل حضورهم يقضون أوقاتهم خارج قاعة الجلسة أكثر مما يكونون داخلها، وينسحبون أو بالأحرى يتهربون عند التصويت، على مشاريع قوانين هامة، لا يبدون فيها برأيهم، مع أن الذين انتخبوهم كانت غايتهم، أن يقوموا بواجب النائب الوطني الحارص على مصالحهم، فهل وفى هؤلاء الذين اقسموا على القرآن بأن يخدموا وطنهم وشعبهم؟ أنا لا اعتقد ذلك، وأرى ان المقابل الذي يتقاضونه لن يكون حلالا، الا اذا أخلصوا لواجبهم، وبذلوا ما يكفي من جهد، من أجل الدفع بالبلاد الى وضع أفضل مما هي عليه.

هذا وتونس دولة ومؤسسات تكاد تعلن افلاسها، وما سيترتب على ذلك من نفوذ اجنبي، ايسره النزول عند اطماع امريكا والغرب، في استئجار قواعد عسكرية، لنصب جنودها وصواريخها ومخططاتها فيها، والقواعد البحرية والجوية والبرية في بنزرت ورمادة محلّ تلهّف الغرب المستعمر، ونتذكّر جيدا أن فرنسا لم تجلي قواتها من بنزرت الا بهد كفاح وتضحيات، فلا نريد أن يعود أي جندي أجنبي الى ارضنا تحت أي مبرر كان، حتى لو كان بعنوان مكافحة الارهاب، والدليل الذي بين ايدينا أن أمريكا والغرب صناع الارهاب الحقيقيين، يحمون بقوات التحالف الدولي داعش لكي لا يقضى عليها، فتبقى في ايديهم مثل الفزاعة، يزعزعون بها استقرار سوريا والعراق، ما نخشاه بحق أن تقع الحكومة في فخ استسهال الصفقات خصوصا العسكرية والأمنية، مع من يعتبرون في سياستنا الخارجية اصدقاء وهم ليسوا كذلك، وبعدها لا نملك لاتفاقات محتملة من هذا النوع تغييرا، فنكون قد بِعنا كرامتنا الوطنية بثمن لبخس، ولحقنا بعد ذلك عارها.

 

لقد جاء خطاب الرئيس قيس سعيد، مبهما في تهديداته، غريبا في تصريحاته بشأن ما جرى يوم التصويت على حكومة هشام المشيشي، فلا الوقت يسمح بتأجيل المحاسبة ولا البلاد عادت تحتمل انتظار من يملك الادلة على جرائم خطيرة جاء ذكرها في خطابه، نعم لقد انتخبك الشعب بأغلبية لم يظفر بها غيرك يا سيادة الرئيس، ولكن لا أرى في تأجيل شهادتك التاريخية فائدة تذكر، بل لعل التعجيل بالإفادة فيها سيجنبنا وقتا وجهدا، قد يكون أكبر لو استمر تهديدك وصمتك متلازمين، لذلك نرجو منك أن تخاطب الشعب في أقرب فرصة، لتقدم له ما بحوزتك من اثباتات، فيكون على بيّنة من أمره.

استقالة محمد عبو من العمل السياسي برمته، عزاه احد اعضاء حزبه بانه جاء نتيجة شعور بالقرف، من المشهد السياسي العام بالبلاد، تبرير مقنع بعض الشيء، ولكن يبدو ان وراء الاستقالة ما وراءها من ضغوط أو احباط سوف تكشفه الأيام ففي تونس لا شيء يبقى مخفيا عن الناس طالما أن هناك عيون لا تنام وان نامت، فإن اسماعها لاقطة جيّدة لآخر المستجدات على الساحة السياسية، والمثال المصري الشائع (يا خبر بفلوس بكرة ببلاش)، أكّد دائما وجود ثغرات غالبا ما حوّلت الأسرار الى مجرّد أخبار في متناول الرّاغب فيها.

السيد محمد عبو منذ أن عين وزير دولة لدي رئيس الحكومة، مكلف بالوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد، لم نرى له حسا بخصوص ملفات الفساد، فلم يخرج علينا بغير ملف حركة النهضة بخصوص التمويل الخارجي، وكأنه يريد أن يسابق رئيس حكومته في ضرب الحركة، لكن الذي لم يتوقع أحد منه أن يستقيل من العمل السياسي، فهل أن نَفَسَ بعض الوطنيين والمناضلين زمن الدكتاتورية قصير وضيق الى هذا الحدّ؟ أم أنه رأى ما لا نراه، فقرر ان لا يكون شاهدا على مأساة، رفض ان يكون طرفا فيها؟ ولكن ما أبطأه الى هذه الأيام؟ على أية حال لقد أخطأ الرّجل في اتخاذ قرار، سيؤثر على تاريخه وعلى مصداقيته.

برلماننا خليط غير متجانس أبدا والصراعات فيه وصلت الى حد  لا يطاق من الفوضى، ولا غرابة تصدر فمن وصل الى البرلمان بسلال مواد غذائية خطط لها رئيس حزبه لسنوات، ومن وصل بأضاحي العيد والمساعدات الاجتماعية، ومن وصل بالمال الفاسد، ومن وصل بإذاعة القرآن الكريم، ومن وصل بالدعم الخارجي الإماراتي والتركي والسعودي، دون أن نغفل عن الدور الفرنسي والامريكي الفاعلين في الشأن الداخلي، خصوصا بعد اعلان قيس سعيد منذ بداية فترته الرئاسية، أن التطبيع مع الكيان الصهيوني يعتبر خيانة عظمى، وزاد التأكيد على ذلك في خطابه أخيرا، يوم أداء يمين حكومة هشام المشيشي أمامه في قصر قرطاج.

لم يعد خافيا أن هناك صراع خطير ناشئ، لا أشك أن الذي يحركه، ويلعب بأدواته جهات داخلية وخارجية، لا تريد الخير لتونس قطعا، ولهما مصلحة في استمرارها، فهل سيعي الشعب الدرس، فيحسن انتخاب نوابه في المرة القادمة؟ أم ان الحبل الاستهانة بالوطن سيبقى على الغارب؟ الإجابة ستحملها الأيام الحبلى بالأحداث الوطنية والعالمية.

السؤال المطروح على كل تونسي، مسؤولا كان أم مواطنا عاديا: اين اختفى الفساد؟ وكيف يمكننا اخراجه عاريا بكامل ملفاته، خصوصا الثقيلة منها، الحبلى بالتجاوزات واستغلال النفوذ، وخيانة المؤتمن، والتلاعب بحقوق البلاد، ومتى نرى جدّية في اظهار هذه الدّمّلة التي ساهمت بشكل كبير في الانهيار الاقتصادي الذي يكاد يحتوينا؟ وكيف ستكون المحاسبة مجاملة كما بدت أول مرة؟ أم بتطبيق القانون دون استثناء لأحد.

محمد الرصافي المقداد 

نشر هذا المقال في الجرأة الأسبوعية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى