تحليل إخباري : حساسية تونس للزلزال المقبل في الجزائر
كتب نزار بولحية (القدس العربي)
ليس معروفا ما الذي يمكن أن يخطر الآن على بال المسؤولين في المغرب وهم يرون ما يحصل على مرمى بصرهم في الجزائر. غير انه سيكون مستبعدا أن يشعروا بالندم على أنهم نأووا بأنفسهم عن التعليق العلني على أحداث الأسابيع الأخيرة في جارتهم الشرقية، وفضلوا التريث إلى حين تتضح الرؤية أمامهم بالكامل، فلديهم أكثر من مبرر للاطمئنان على موقفهم.
لكن هل الصورة تبدو مطابقة أيضا في الجارة الأخرى تونس؟ وهل يمكن للتونسيين الذين ليست بينهم وبين جارتهم الكبرى صراعات أو خلافات، أن يديروا ظهورهم ويواصلوا صمتهم شبه المطبق، مكتفين بكتابة عبارات الحب والهيام بالجزائر، والدعوة على مواقع التواصل تلميحا، أو حتى تصريحا لأن يحفظها الله من شر تلك المظاهرات غير المسبوقة، التي اجتاحتها الشهر الماضي؟ أليس مطلوبا ومنتظرا منهم أن يفعلوا أكثر من ذلك دعما للجزائريين في انتفاضتهم للمطالبة بالتغيير السلمي؟
لعل قائلا قد يقول، وما حاجة الجزائريين لتضامن تونسي، في مسألة تبدو من اختصاص أصحاب الشأن وحدهم؟ إن للسؤال اليوم أكثر من معنى، فليس خطر التداعيات المرتقبة لما سيحصل غدا في الجزائر على بلد صغير وجار مثل تونس هو وحده الذي يقتضي طرحه، بقدر ما أن أفق ومستقبل الديمقراطية التونسية نفسها هو الذي يفرضه كذلك. ومع أن الجميع يدرك أن الجارة الصغرى ليست بلدا ثوريا ينحدر شعبه من نسل جيفارا، بقدر ما هي دولة محدودة الموارد، تعي جيدا حجمها ودورها، وتدرك أيضا وزن وحجم جارتها الكبرى وظروفها. ومع أن الثابت أيضا هو ان آخر ما قد يشغل التونسيين في هذا الظرف، هو أن يفكروا في تصدير تجربة انتقالهم الديمقراطي لأحد من جيرانهم، وكل ذلك لا يعني أن البقاء على ربوة الترقب والانتظار، بالنسبة لناشطي المجتمع المدني، على الاقل، مقبولا. لقد كان بإمكانهم أن يبعثوا بعض الاشارات البسيطة والواضحة التي تدل على أن الديمقراطية الغضة ترفض منطق الاستبداد كيفما كان واينما حل. ففي الوقت الذي كان فيه صحافيون في الإذاعة الرسمية الجزائرية ينشرون ساعات فقط بعد مظاهرة الثاني والعشرين من فبراير الماضي، بيانا يندد بعدم «احترام الحياد في معالجة الأخبار» معتبرين أن «مهنة الإعلام والخدمة العمومية في الجزائر خسرت كل أساليب حمايتها، ووسائل الحفاظ على كرامتها، وسبل الحفاظ على الضمير المهني أيضا». ومؤكدين رفضهم «للمعالجة الإعلامية الخاصة المفروضة من جهة عليا لفائدة الرئيس المرشح عبد العزيز بوتفليقة، مقابل تقليص التعامل مع تصريحات وأصوات المعارضة» ما جعلهم مجبرين على قفل افواههم، واعتبار ما جرى في ذلك اليوم حدثا عابرا غير جدير بالاهتمام، كان زملاء آخرون لهم يحرصون على أن ينقلوا لقرائهم في اليوم الموالي تصريحا لافتا للرئيس التونسي من مقر الأمم المتحدة بجينيف أدلى به، على هامش اجتماعات مجلس حقوق الإنسان التي حضرها، وقال فيه ردا على سؤال صحافية من التلفزيون السويسري حول موقفه مما يجري في الجزائر، إن تونس لا تقدم دروسا للآخرين، وإن الشعب الجزائري الذي قاوم الاستعمار لمئة وثلاثين عاما يعرف ماذا يفعل، وأن من حقه أن يعبر مثلما يشاء، وأن يختار حكامه بحرية. مؤكدا مرة أخرى على أنه لا يقدم دروسا لأحد.
وطبعا لم يكن هناك لا في الجزائر ولا حتى في تونس من ينتظر من الرئيس التونسي، الذي فاخر طويلا بأنه النصير القوي لحرية الصحافة، أن يتعرض من قريب أو بعيد للتضييقات التي تعرض لها الصحافيون الجزائريون في تغطيتهم للاحتجاجات الأخيرة على العهدة الخامسة، لكن ألم يكن ممكنا للصحافة التونسية الحرة أن تفعل ذلك، وتسأله عن موقفه، أو أن تسأل مسؤولا آخر غيره في الحكومة، بعد ايام، عن السبب الذي جعل السلطات تمنع الجمعة الماضي جزائريين من تنظيم مسيرة أمام سفارة بلدهم في تونس للتعبير عن موقفهم من تلك العهدة، ولما كان ممكنا لهؤلاء أن يحتجوا في باريس مثلا، ويمنعوا من ذلك في بلد مجاور لبلدهم، يقدم على أنه الأكثر حرية وديمقراطية في المنطقة؟ والواقع انه لم يكن واردا أو مقبولا بالمرة، لا من هذه الجهة، ولا من تلك، أن يظهر موقف رسمي بعيد عما عبّر عنه الرئيس قائد السبسي، فالقواعد القديمة جعلت من غير الممكن لتونس والجزائر أن تصيرا بالفعل بلدين لشعب واحد، مثلما يروق للرسميين فيهما أن يرددوا في بعض المناسبات، متى تعلق الأمر بما يراها هؤلاء من صميم المسائل الداخلية لبلديهما. فليس ممكنا للقادة السياسيين أن يخوضوا مثلا في أي خرق أو انتهاك قد يحصل وراء حدودهم حتى بشكل غير رسمي، لأنهم يعلمون أن ذلك سيجعلهم عرضة لتلك التهمة التقليدية بالتدخل في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة ذات سيادة.
التطورات المقبلة في الجارة الشرقية تجعل التونسيين أمام هاجس تكرر التداعيات المأساوية للأزمة الليبية عليهم
إن تلك الحقيقة التي يعلمها التونسيون جيدا لا تنفي حساسية الجارة الكبرى المفرطة، لأي إشارة أو حتى تلميح عابر لأوضاع الحريات وحقوق الإنسان فيها. وتبدو الصورة على المستوى الرسمي شديدة التعقيد. فارتباك النظام في الجزائر يزيد من مخاوف تونس على استقرارها، وعلى بقاء تجربتها الديمقراطية. ولم يكن من باب الصدفة أبدا أن يطير وزير الداخلية التونسي في عز الحراك الشعبي ضد العهدة الخامسة للعاصمة الجزائرية، أو تتالى تصريحاته هذه الايام حول استعداد قوى الامن التونسية لتأمين الحدود الغربية للبلاد. فرغم كل ما يقال عن التعاون الأمني بين الجانبين، إلا أن الاوضاع لا تبدو مطمئنة تماما للتونسيين، الذين لم يتمكنوا بعد من القضاء النهائي على الجماعات المسلحة، التي تتحصن بالجبال، ولا يعرف أحد متى تخرج من جحورها للضرب وتقويض المسار السياسي لتونس. وربما لم يكن من الصدفة أيضا أن تكشف صحيفة «نيويورك تايمز» السبت الماضي عما وصفتها بالعملية الأمنية السرية التي شاركت فيها قوات المارينز قبل ثلاث سنوات من الآن، ضد عناصر من تنظيم «القاعدة» على الحدود التونسية الجزائرية. وسواء أراد الامريكان من وراء ذلك التسريب، بعث رسالة طمأنة للرأي العام التونسي حول قدرتهم ورغبتهم في الوقوف مع الديمقراطية التونسية، ضد كل التهديدات التي تطالها؟ أم كان الامر بالون اختبار يستهدف جنرالات الجزائر بالاساس، فإن التطورات المقبلة في الجارة الشرقية تجعل التونسيين أمام هاجس تكرر التداعيات المأساوية للازمة الليبية عليهم. إن حاجتهم ملحة لتعاون أكبر وأوثق مع الجزائر، لتأمين حدودهم وهم يريدون في الوقت نفسه أن يستكملوا تجربتهم ويمضوا بها للآخر، وهو الامر الذي لا يتحقق إلا بوجود تفاهمات مثل تلك التي حصلت مع قيادة بوتفليقة، ولكنهم يفضلون في المقابل نظاما مدنيا وديمقراطيا يستجيب لتطلعات الجزائريين وينظر لتونس لا كجارة صغرى تستحق الرعاية، بل كبلد حر يملك قراره ويحترم جيرانه. أما كيف يمكنهم أن يحصلوا على ذلك في ظل ما يجري الان؟ فالامر يبقى معلقا بشكل كبير بنتائج الزلزال السياسي الذي تشير كل الدلائل إلى انه في طريقه لان يهز الجزائر في القريب.