بنزرت: عم سالم الطياشي.. شيخ الثمانين الذي عاش عشرين عاما في كهف بجبال ماطر

“الحمد لله.. لاباس”، كلمات وعبارات رددها بصوت خافت عم سالم الطياشي، عندما سألته عن شعوره وهو يغادر المستشفى الجامعي الحبيب بوقطفة ببنزرت تمهيدا لتوجيهه إلى مركز الاحاطة والتوجيه الاجتماعي بتونس.. كلمات قصيرة قليلة، لكنها كانت عميقة ومفعمة بفرحة كبيرة وسعادة غامرة تدركها بإحساسك لكنك لا تلمسها عيانا على محياه بسبب تجاعيد وجهه الغليظة القاسية، التي تذكر جميع المحيطين به بحدة وقساوة المحيط الذي كان يعيش فيه… مكرها، وهو الانسان الذي ولد وعاد من جديد للحياة بعد أن عاش رحلة “غياب” استمرت لأكثر من عشرين عاما قضاها في كهف بجبال منطقة الزقيقيلة من عمادة بومخيلة بمعتمدية ماطر من ولاية بنزرت.
كهف، عند مشاهدته من أي كان، من المستحيل أن يتبادر إلى ذهن أي متابع أنه كان يؤوي إنسانا من مواليد القرن ال21 ، لأنه ببساطة مغارة تحمل ملامح عهود الإنسان البدائي، قبل أن تقنعك الملابس البالية المتناثرة، والسرير الحديدي الصدئ الذي احتل كامل مساحته، أنه شكل بالفعل مأوى لشيخ طاعن في السن، هو عم سالم الطياشي صاحب ال83 ربيعا.. بل خريفا، إن صح التعبير..
*حياة بدائية:
فعم سالم، الذي كان يعيش في كهف في منطقة الزقيقيلة من عمادة بومخيلة، تم العثورعليه، وفق تأكيد الإعلامي السابق ومعتمد ماطر الحالي، توفيق نويرة،خلال ليلة ليلاء من شهر مارس الطويل والقارس، بعد إشارة من عدد من المواطنين وفاعلي الخير،الذين، خلال زيارة متابعة رسمية للمنطقة، آلمهم حال عم سالم، وهو الشيخ الطاعن في السن، بمرضه ووحدته وفقره المدقع، أن تتواصل معاناته ويبقى وحيدا يعيش على مدى أكثر من 20 سنة في كهوف جبال منطقة الزقيقيلة الوعرة، يفترش الأرض في وضعية انسان ما قبل المدنية، ويلتحف جدران صخور كهفه الصماء، الذي آوى إليه لحمايته من برد الشتاء وحر الصيف على طريقة الانسان البدائي، يعيش على الهامش، بسبب غياب السند والفقر.
وواصل محدثنا معتمد ماطر قائلا: بعد اكتشاف عم سالم، تم على الفور، بالتنسيق مع والي بنزرت، محمد قويدر، استنفار الامكانيات الواجبة لإنقاذ هذا الشيخ الذي جارت عليه السنون وبنو البشر، وتم عن طريق مصالح الحماية المدنية توجيهه ونقلته الى المستشفى المحلي بماطر أين مكث لتلقي العلاجات اللازمة عن طريق الاطار الطبي وشبه الطبي، قبل تحويله الى مستشفى بوقطفة ببنزرت، حيث أجريت عليه عملية جراحية دقيقة جراء كسر عانى منه منذ مدة كللت بالنجاح بفضل العناية الإلهية وعناية الطاقم الطبي بالتعاون مع بقية مصالح الارشاد الاجتماعي …
*دون هوية:
وتابع المتحدث سرده لحكاية عم سالم مع الحياة بالإشارة إلى أن الرجل لم يكن يملك أي وثيقة رسمية ولابطاقة تعريف وطنية قد تدل على هويته المدنية، لتنطلق رحلة الألف ميل مع البحث في كل الأماكن والادارات التي قد تكون لها أي وثيقة تعريف بعم سالم، بدءا من المستشفى، ومرورا بدائرة الحالة المدنية ببلدية ماطر وغيرهما، وصولا إلى سؤال من عرفه من بعيد من أهالي بومخيلة والزقيقيلة، الذين كانوا يعطفون عليه كلما نزل من مقر سكناه، كهفه البدائي، للحصول على بعض المؤونة التي تسد رمقه، وتبقيه شبه حي بكهفه المنسي…
*تعب لذيذ:
رحلة مضنية ومتعبة بسبب الاجراءات الإدارية المعقدة، وفق ذات المصدر، لكنها كانت مريحة لكل الأطراف من مصالح الحماية المدنية والشرطة الفنية وبقية الأسرة الامنية والسلط الجهوية والمحلية، حتى إتمام الإجراءات الخاصة باستخراج بطاقة تعريف وطنية لعم سالم، وتمكينه أخيرا من شهادة اعتراف بانه مواطن تونسي معلوما لا منسي، مثلما كان طيلة زهاء نصف قرن أو أكثر… في يوم مشهود أدخل الفرحة لدى الجميع، خاصة وأن الأمر قد تزامن مع شفاء عم سالم من مصاعبه الصحية الكثيرة.
*انقاذ:
خواتيم هذه الرحلة تجسدت في تكريم عم سالم، وإقرار نقلته بداية الأسبوع المقبل إلى مركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بتونس أين سيقيم قبل نقله إلى أحد مراكز رعاية المسنين، باعتباره فاقدا للسند، وهو الذي تجاوز سنه ثمانية عقود…عاشها مكافحا مناضلا ضد ضنك العيش وقسوة الظروف، على أمل أن تبتسم له الحياة في الأخير، ويقضي باقي أيامه على فراش مريح وفي كنف محيط يكفل له شروطا دنيا من الحياة الكريمة، ما قد ينسيه ما شهده من أهوال كهف جبال الزقيقيلة على مدى أكثر من عقدين من الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى