هكذا ضاع عبو بين المرزوقي والغنوشي

كتب : نصر الدّين السويلمي

عند خطّ الانطلاق سنة 2011 وبالتحديد إثر أوّل انتخابات حرّة في تاريخ تونس، كان عبّو يشبه كثيرا للمرزوقي، لا يمكن التشكيك في ولائه للثّورة، يدافع عنها وينحاز إليها ضدّ كلّ عمليّات التحرّش التي استهدفتها، كانت رؤيته للهويّة لا تختلف عن رؤية المرزوقي شخصيّات علمانيّة تحترم هويّة بلادها ولا تميل كثيرا إلى طرح تفاصيلها للمداولة لأنّها تلهي عن المعركة الأمّ، معركة الانتقال الديمقراطي.

لم يكن لعبّو العمق المرزوقي والتّاريخ المرزوقي والاسم المرزوقي، لكنّه كان يشبهه في توجّهاته أو يبدو كذلك، كانت لديه عزّة نفس كما لدى المرزوقي، يصفها البعض بالنرجسيّة، والبعض الآخر يعدّها من صنوف الثّقة بالنّفس. وعندما نقول المرزوقي نقول مدرسة من مدارس الثّورة، أو الوجه الآخر لفلسفة التعاطي مع الثّورة، في حين يمثّل الغنّوشي الوجه المغاير والفلسفة المغايرة، كان الغنّوشي يعتمد الحكمة، ويدرس موازين القوى ثمّ يتحرّك وفقها، وكانت تعنيه الثّورة بدرجة كبيرة، لأنّه واحدا من أكثر المستفيدين منها، وهو الذي حوّلته سبعطاش ديسمّبر من الخصم الأوّل للسلطة إلى الصّانع الأوّل للسلطة في تونس، أدرك الغنّوشي أنّ المعركة أكبر من الفوز بكلّ شيء دفعة واحدة ، وأبعد ما يكون عن كن فيكون، وأنّها معركة أولويّات وتنازلات وأنّ السّاحة التونسيّة ليست ساحة جاهزة للإنزال الثّوري المكثّف تحت تغطية من مدافع العزيمة، وإنّما هي ساحة صالحة للتدفّق الثّوري، بإيقاع المطر هي ساحة تحبّذ الطلّ أو الغيث على الوابل، ثمّ إنّ الرجل كانت لديه قناعات كبيرة أنّ التداول السلمي على السلطة هو حجر زاوية الثّورة، وما دونه عارية ومردودة، لذلك وبعد هجمة 2013 الشّرسة تخلّى عن السلطة حتى لا يدفع خصومه إلى العمل على تغيير قواعد الوصول إلى السلطة، وحتى يحبّب إليهم طريق الصّناديق بدل الإلتجاء إلى الممرّات السّوداء، كانت أكبر عملية ثوريّة لينة ومثمرة قام بها الغنّوشي، حين أكّد لعناصر المنظومة القديمة ومراكز قواها الرهيبة أنّه بإمكانهم حكم تونس بالديمقراطيّة، بإمكانهم الوصول إلى السلطة عبر الشعب وبإمكان بقيّة القوى أن تتوافق معهم في الحكم! إذا ما حاجة المنظومة المتوتّرة الشرهة للصدام إلى عمليّات دمويّة قذرة وغير مضمونة، ما دامت فرضيّة الوصول إلى الحكم بديمقراطيّة الثّورة ممكنة.

لم يصادم الغنّوشي قوى الثّورة المضادّة في تونس لكن شبكاتها تعتبره خصمها الأوّل في تونس، لم يصادم الغنّوشي الثّورة المضادّة الأمّ في مستودعاتها الإقليميّة الكبرى ولا هو هاجمها بتصريحاته، لكنّها تهاجمه وتعتبره سرّة التجربة وحجر زاويتها، وبمراجعة طفيفة لأداء الثّورة المضادّة سنقف على 3 خصوم رئيسيين لها، الغنّوشي والنّهضة والمرزوقي، تضعهم تحت قصفها منذ أسفرت وأعلنت عن نفسها ونجحت في كسب معركة مصر، لما أجهزت على ثورة 25 يناير.

تلك منهجيّة الغنّوشي، فيما يبقى المرزوقي أحد أكثر الشخصيّات السّياسيّة في تاريخ تونس إصرارا على انتهاج الحق، وأقلّهم قدرة على المناورة إذا تعلّق الأمر بالحقوق، فهو الشخصيّة التي لا تملك علاقات جديّة مع فلسفة موازين القوى وربّما يتحسّس منها، وربّما يحتقرها، ويرى بأنّ الذهاب إلى الحقّ رأسا هو الأصلح وإن طال الطريق، ربّما كان المرزوقي أمل دنقل السّياسة التونسيّة، ربّما أعرض عن كبار القبيلة حين قالوا له :ها أنت تطلب ثأرًا يطول** فخذ الآن ما تستطيع** قليلاً من الحق.. في هذه السنوات القليلة **إنّه ليس ثأرك وحدك..لكنّه ثأر جيلٍ فجيل** وغدًا.. سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً، يوقد النّار شاملةً..

ربّما قالوا له، وربّما لم يسمع لهم..هو أيضا يرى أنّ التوسّع في المناورة يفقد الأهداف النبيلة بريقها ويدفع المجتمع إلى الانصراف منها لغيرها، قوّة عناد رهيبة ومغالبة لا حدود لها، فالروبوت الحقوقي المسكون بالتحدّي لا يهجع إلى جني الأرباح من حدائق السيسي وبن زايد وبن سلمان وحفتر وسائر أباطرة الثّورة المضادّة، ليس بينه وبينهم غير السّجال والنّزال، وإمّـا قاتل أو مقتول.

يختلف المرزوقي عن الغنّوشي كثيرا، ليس هناك في شخصيّة الرجلين ما يؤلف أو يقارب بين فكرة هذا وذاك، رجل يسلك طريق الحقّ ورجل يسلك طريق الممكن، رغم ذلك التقيا في محطّات لها دلالتها الغزيرة لمن ألقى السمع وهو شهيد، فعدو هذا هو عدو ذاك، وصديق هذا هو صديق ذاك، ليس تماما ولا بذلك التفصيل الدقيق ولكنّها مقاربة لا تفلتها العين المجرّدة، صادم المرزوقي الثّورة المضادّة في منابعها وعرّض بها وقال، بينما صادمت الثّورة المضادّة الغنّوشي في بلده.. في مكتبه.. في بيته، يدرك المرزوقي أنّها العدوّة وتدرك المضادّة أنّ شيخ النّهضة هو العدو، ذلك الغنّوشي ركيزة شهيّة لو سحبتها ستجلب الربح الوفير. ثمّ إنّ مثلث المنظومة القديمة يسارالتحنيط وقوميّة بشار، أطلقوا على الغنّوشي الإسلامي أفظع الأوصاف، هم أيضا بشحمهم ولحمهم من نعتوا المرزوقي بأبشع النعوت!!! لأنّ المدار ليس الإسلامي والعلماني، بل المدار كلّ المدار حول الثّورة وحول تجربة الانتقال الديمقراطي وحول المحيط الإقليمي ونظرته وتعاطيه مع ثورة تونس. لذلك شنّع اليسار بالرجل اليساري كما شنّع القوميّون بالرجل العروبي، كان يصعب على المرزوقي أن ينحر الثّورة لحساب سفاسف حداثاويّة، كما كان موته أهون عليه من استمالة التيّار القومي بالتصفيق إلى سفاح البراميل المتفجّرة، هل كانوا يطلبون من المرزوقي أن يفعل كما فعل الذين شدّوا الرّحال نحو دمشق والتقطوا صورة مع السفّاح ثمّ دخل بهم.. هل حدّثوا أنفسهم بأنّ المناضل الشرس سيقطع آلاف الكيلومترات من أجل التقاط صورة مع صورة بشّار!!!

حاول محمّد عبّو نحت شخصيّة خاصّة بعد أن ضاق به إناء المرزوقي، لكن المشكلة أنّ الانتقال كثيرا وبعيدا عن حقل المرزوقي وتربته، سيدفع بالرجل إلى حقل الغنّوشي وتربته، مساحة متقاسمة بدقّة وبدون سابق قول ولا فعل، هي شخصيّة الرجلين وتاريخهما من اقتطعت المساحة وصنعت التماس الدقيق، لا خيار خارج فلسفة حقّ الثّورة بالجملة “المرزوقي” وحقّ الثّورة بالتفصيل”الغنّوشي” ومن خرج عن صلابة المرزوقي ومرونة الغنّوشي سيجد نفسه في برغماتيّة السبسي أو في حجر الأزلام.. حاول عبّو! اجتهد! أراد حال خروجه من الترويكا أن يشقّ طريقه ويصنع فكرته المستقلة، لكنّه كان يراوح.. ذلك أنّ المنهج لا تصنعه القرارات، بل تصنعه التجربة والصّبر والتمحيص والذهاب بعيدا في البحث عن بقعة ضوء في آخر النّفق.. ولما عجز عبّو وأعيته الحيل، شرع في استنساخ الكيان الضدّ! حينها بدأ يتحرّش بالنّهضة ويلفت الأنظار إليه بقدر ابتعاده عنها ومناكفته ومصادمتها في خياراتها حتى وإن كانت سليمة لا غبار عليها، ذهب عبّو إلى الجبهة الشعبيّة، اقترب من قوى الاستئصال، توغّل أكثر.. ثمّ انتهى به المطاف إلى استعمال نفس المصطلحات، وكما قدّم يسار الجبهة الشعبيّة باكورته الحقوقيّة لحليفته القوميّة العسكرتاجيّة، وكما قدّمت القوميّة العسكرتاجيّة هويّة البلاد وثوابتها عربون تقارب ومبادلة مع اليسار الاستئصالي والآخر الثّقافي،

كما حصل ذلك والتهم تحالف الجبهة الشعبية مزايا هذا التيّار وذاك، ها هو محمّد عبّو يعيد التجربة مع حركة الشّعب، ينحاز إلى اليسار، يلتحم بالجبهة المنهارة، يرتشف خصائصها، ويبدأ مع حركة الشّعب في استنساخ جبهة شعبيّة أخرى بنفس مواصفات القديمة، ها هو يجترّ معهم معزوفة النشاز “لا تركيّا لا قطر” ثمّ ها هو يقترب أكثر من حفتر ومن العسكرتاجيّة ، ويستهتر بأصدقاء التجربة التونسيّة ويخلط الأوراق بطريقة عبثيّة، كانوا راودوا وخاتلوا عليها المرزوقي ولما يئسوا منه أطلقوا عليها جميع كلابهم، من دوبرمانهم إلى كنيشهم.. ذهب المرزوقي بعيدا عن السلطة وهو يدرك أنّ الانتصار ليس البقاء على قيد الدولة وإنّما الانتصار هو البقاء على قيد الفكرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!