كتب عبد الحميد الجلاصي / قراءة في المقاربة التونسية في التعامل مع جائحة كورونا

يتعرض الكاتب عبد الحميد الجلاصي في هذا المقال للمقاربة التونسية في التعامل مع جائحة كورونا التي يعتبرها حربا تخضوها كل البشرية ضد عدو لكن لا أحد يعلم متى تنتهي هذه الحرب.

هذا المقال تم نشره ” بالشرق للأبحاث الاستراتيجة”  ونقوم بنشره في الجرأة نيوز بموافقة صاحبه.

كتب عبد الحميد الجلاصي :

تمهيد : لعل أهمَّ ما تعلَّمه التونسيون خلال السنوات التسع الأخيرة هو أن إدارة السياسة خلال مسار انتقاليٍّ هي بالتحديد مسلسل إدارة أزمات متولِّد بعضها عن بعض، وراكموا خلال ذلك خبرةً في التعايش مع الأزمات وفنون إدارتها، والتي كان يفترض الانطلاق منها في التعامل مع جائحة كورونا. لكن اتضح أن تلك الخبرة لم تكن ذات جدوى كبيرةٍ في التعامل مع أزمة طبيعتها مختلفة جذريًّا عن كل ما تعوَّد العقل الإنساني التعاملَ معه منذ عقود. فقد وجدت البشرية نفسها في مواجهة شبحٍ، وأمام كارثة شاملة وعميقة وطويلة المدى تتحدَّى المنظومات الوطنية والإقليمية والوطنية، كما تضع على المحكِّ مجملَ الخيارات التي اهتدى إليها الجنس البشري لتنظيم عيشه المشترك، بل تعيد طرح الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلِّقة بالمنزلة الإنسانية وعلاقة هذا “الكائن الفريد” بالزمن، والموت، والطبيعة، والغيب، والسعادة، واللذة، والمنفعة، والنجاعة، والجمال، والعدل وغيرها، بالإضافة إلى أسئلة الدولة والسلطة والتضامن  وأولويات العيش المشترك .

 

لكأن البشرية أُخذت على حين غرَّة في حربٍ لا أحد يدري متى تنتهي، فكانت “الدولة” هي قائد هذه المواجهة، ولم يختلف في ذلك دعاة الدولة القوية والتدخلية عن دعاة تقليص سلطة الدولة وتحييدها عن التدخل في الجانب الاقتصادي أو في الفضاء المجتمعي وجانب الحريات، وكانت الإجابات وطنيةً بالأساس، عبأت فيها كلُّ دولة مواردها وما يتوفَّر لديها من أرصدة روحية وثقافية وبشرية ومالية  .

 

يمكننا أن نحصي تجارب المواجهة بعدد دول العالم، وكانت كل التجمعات الدولية والإقليمية هي الغائب الأكبر حتى أشدها صلابةً وتماسكًا، واستحضر كثيرون مشهد “يوم يفرُّ المرءُ من أخيه وأُمِّه وأبيه وصاحبته وبَنِيه”، وما يزال الوقت مبكِّرًا لكتابة هذه التجارب المتنوِّعة والحكم عليها والمقارنة بينها .

 

إن هذه الورقة ستحاول قراءة المقاربة التونسية، من حيث الرؤية والسياسات والإجراءات والانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك رسم احتمالات تطوُّر الأوضاع، وهي تدرك أن الزمن هو زمن التواضع أمام ما هو مركَّب ومعقَّد ومجهول .

 

المقاربة والسياسات وطريقة الإدارة:

 

لم تتشكَّل الحكومة التونسية الجديدة إلَّا بعد مخاضٍ طويلٍ وعسيرٍ أثَّر في مجمل المناخ السياسي، وأهدر شيئًا من رصيد الأمل الذي بعثته الانتخابات؛ ولذلك كان المأمول هو إنهاء مرحلة الضبابية، والتفرغ للمستعجل من الإجراءات قبل الشروع في برنامجٍ للإصلاحات العميقة الذي طال انتظاره. لكن الجائحة فرضت نفسها مع الإعلان عن أول إصابة في الثاني من مارس، ولم تكن الحكومة السابقة قد اتخذت ما يكفي من الإجراءات رغم النُّذر المتكرِّرة الواردة من دولٍ متعدِّدة.

 

ولقد بادرت السلطات التونسية باعتماد مقاربة متدرِّجة قوامها التوعية والردع والتحفيز. وحرصت في البداية على الموازنة بين حماية الأرواح وبين المحافظة على السير العادي للحياة دون تعطيل سير المرافق العامة والآلة الإنتاجية، لكنها سرعان ما انحازت إلى مقاربة إنسانية صارمة بإغلاق الحدود، وفرض الحجر الشامل، والحفاظ فقط على الحدِّ الأدنى من المرافق. ونحن نرجِّح أن الخيار كان مناسبًا في وقته، فلا أحد في العالم كان يتوقَّع حجم الجائحة، ولم يكن من السهل إغلاقُ بلادٍ مفتوحة بطبيعتها وذات اقتصادٍ هشٍّ مبنيٍّ على حرية النقل والمبادلات في سوقٍ صغيرة، كما لم يكن من السهل إقناع الرأي العام بخطورة الوباء. ويُحسب للسلطات التونسية انحيازها دون تردُّد إلى خيار المحافظة على الأرواح على حساب المصالح في وقتٍ لم تستنكف فيه دولٌ كبرى من  اللجوء إلى خيارٍ أسمته “المناعة الجماعية”، قبل أن يضطرها الرأي العام وحجم الضحايا والحسابات الانتخابية إلى التراجع .

 

ولقد تجسدت هذه المقاربة في جملةٍ من السياسات تعطي الأولوية المطلقة في الموارد والرعاية للمرفق الصحي، مع الصرامة في فرض الحجر، والتشدُّد في الالتزام به، ومع الحرص على توفير الحدِّ الأدنى من مستلزمات العيش للفئات الهشَّة، وضمان الحدِّ الأدنى من مسالك التوزيع، بالإضافة إلى الحرص على حماية المؤسسات الاقتصادية، وخاصةً الصغرى منها، وتلك التي تعاني صعوبات أو المرتبطة كليًّا بالتصدير .

 

وتراوحت الإجراءات ذات الانعكاس المالي بين الدعم لقطاعات المواجهة المباشرة، والإعفاءات الجبائية، وتأجيل مواعيد الاستخلاص والتدخلات الاجتماعية، بتكلفة ثقيلة على موارد الدولة، وهي كلها بمقدورها المساهمة في التخفيف من الآثار الإنسانية لأزمة قصيرة الأمد، ولكنها لن تكون قادرةً على مواجهة أزمة طويلة  .

 

ومن زاوية الإدارة، فقد أثار أداء رئيس الجمهورية الكثير من الجدل بين مناصرين يشيدون بالصورة غير النمطية لمسؤولٍ من أهم خصاله  العفوية والتواضع والصدق، في مقابل من يشدِّدون على بطء ردود الفعل، وضعف الأداء، والتباس الرسائل الموجَّهة لبعض الفئات، ومن بينها الفاعلون الاقتصاديون، كما ينبهون إلى مخاطر القراءة الحدية والحرفية للصلاحيات الدستورية في وضعٍ يتطلَّب قراءةً سياسية تجميعية .

 

أما البرلمان، فقد تأخَّر كثيرًا في الدخول في زمن الحرب، وتواصلت المناكفات بداخله. ولقد  كان نقاش طلب الحكومة تفويضها بالعمل بالمراسيم مناسبةً للانتباه إلى حجم عدم الثقة السائدة. فلم يكن النقاش ذَا طبيعة دستورية ولا سياسية، بل كان يعكس في جوهره مخاوفَ متبادلةً؛ إذ تخشى الحكومة من تعطيل عملها، فيما تخشى كتل برلمانية – وبعضها وازن في تركيبة الحكومة – من تهميش البرلمان، بل حتى الانقلاب على المسار برمته.

 

أما أداء رئيس الحكومة، فقد انطلق متوسطًا في المضمون ودقَّة الرسائل الاتصالية ووضوحها وحرارتها، وغلب عليه التردُّد، ولكنه سرعان ما استردَّ موقعه قائدًا للفريق، وموجِّهًا رسائل التحفيز والطمأنة للرأي العام، وجامعًا بين الترفق والصرامة  .

 

أما أداء وزير الصحة، فكان متميزًا، خاصةً خلال الأسبوعين الأوَّلين، وبرز رمزًا ملأ الفراغ القيادي ليس فقط بسبب أن الأزمة صحيةٌ بالأساس، ولا لأنه ابن القطاع ويعرف الوزارة ومشكلاتها منذ أن أشرف عليها سنتي (2012-2013)؛ ولكن خاصةً بسبب ما يتوفَّر عليه من مؤهلاتٍ قيادية واتصالية صقلها النضال الطلابي، والتعامل مع الأزمات في فترة سجنه وبعدها، وهي خصالُ جيلٍ شابٍ يجمع بين الوعي السياسي وحسن التواصل، والقدرة على إدارة الفرق ورفع المعنويات، والتوقع واتخاذ القرار .

 

بالمقابل، فإن ظهور وجوه أخرى من الفريق الحكومي معنيَّة بإدارة الأزمة كان دون المطلوب رغم بعض التحسُّن التدريجي.

 

إن رئيس الحكومة رمزٌ لجيلٍ شابٍ من الكفاءات التي دخلت عالم السياسة بعد الثورة، أما وزير الصحة فهو رمز لجيلٍ من المناضلين غُمط حقُّه. هذان الصنفان بالإضافة إلى كفاءاتٍ عليا قبرتها البيروقراطية، قد تكون الاكتشاف الأهم لإدارة ما بعد مرحلة كورونا  .

 

من جانبها، اجتهدت السلطة المحلية المستحدثة إثر انتخابات مايو 2018 في القيام بدورها، وهي القريبة من المواطنين، رغم قلَّة الموارد واستمرار ثقافة المركزة ومقاومة جزء من الإدارة .

 

وإلى جانب المؤسسات المنتخبة، فقد بذلت الإدارة جهودًا جبارةً للتأقلم مع الأوضاع الجديدة، وكان الغالب على السلوك الاجتماعي التضامن والتآزر عبر الآليات التي فتحتها الحكومة أو عبر مبادراتٍ تلقائية ترتكز على علاقات القرابة والجيرة وغيرها. كما كان للشباب دور مهمٌّ في التفاعل مع الكارثة من خلال الضغط على أصحاب القرار السياسي، والتصدي للانحرافات الإعلامية، ومن خلال التوعية والتحسيس عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك تنظيم سلوك المواطنين في طوابير التزوُّد وقضاء الشؤون الإدارية .

 

أما موقف الاتحاد العام التونسي للشغل، فكان داعمًا للتعبئة العامة، ومشجعًا عليها، رغم تحفُّظه على المنحى الذي يمكنه أن تتخذه الإجراءات باتجاه مزيدٍ من تسليط الضغط على الطبقة المتوسطة والفئات الهشَّة والمعطَّلين عن العمل. أما موقف الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، فقد كان شديد النقد، معبرًا عن التخوف من تحميل المؤسسات أعباء مالية إضافية تهدِّد توازناتها، بل ربما وجودها، وهو موقف أثار ردود فعلٍ مستهجنة لدى الرأي العام .

 

وكان التعاطي الإعلامي في عمومه مقبولًا رغم بعض الانحرافات التي رأى كثيرون أنها تتجاوز الأخطاء المهنية لتعكس موقف لوبيات مصالح لعرقلة  كل توجُّه نحو اعتماد الشفافية ومحاربة الاحتكار والمضاربات .

 

أما الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، فقد كان نشطًا جدًّا في توفير السلع وضمان تزويد السوق، وتأطير الفلاحين في الأرياف، والحرص على توفر مخزونٍ يلبي الحاجيات لأشهر قادمة.

 

الانعكاسات الاقتصادية :

 

عانى الاقتصاد التونسي من أزمة هيكلية انفجرت منذ النصف الثاني من الثمانينيات من القرن الماضي، وأدت بالتطاول إلى العجز عن الاستجابة للطلبات الاجتماعية المتزايدة، نتيجة تعويله على قطاعاتٍ هشَّة ترسِّخ واقع تبعية البلاد، كما تعكس تموقعها الهامشي في التقسيم الدولي للعمل. وكانت الثورة إعلانًا صارخًا عن وصول المنوال التنموي إلى نهايته، كما كانت في عمقها صرخةً وطلبًا لتغييرٍ يتجاوز الترتيبات الجزئية .

 

غير أن الهشاشة المؤسسية وضعف الإرادة السياسية قد فاقمت المعضلات، وبدت التجربة التونسية بناءً غير متوازنٍ بين حصيلة المكاسب السياسية وجمود المنجز والخيال الاقتصادي والاجتماعي، وهي المفارقة الأساسية التي تعهد الجميع  بعلاجها خلال العهدة (2019-2024).

 

لقد عرَّت جائحة كورونا مشاكلَ قطاعٍ مأزوم بطبعه؛ إذ انكمشت كلُّ القطاعات المرتبطة بسيولة النقل مع الخارج مثل قطاع السياحة والأنشطة المرتبطة به، ومثل القطاع الصناعي حيث تستورد تونس أغلب معداتها الصناعية المستخدمة في الإنتاج من الصين وأوروبا، بالإضافة إلى تضرُّر قطاع  النقل وتراجع القطاع البنكي بسبب عدم قدرة النسيج الاقتصادي الوطني – المتكوِّن أساسًا من مؤسساتٍ صغرى ومتوسطة – على الصمود أمام الأزمة والإيفاء بالتزاماته المالية.

 

كما أن المبالغ المخصَّصة للدعم المالي المباشر التي تتجاوز 2,7 مليار دينار (ميزانية الدولة لسنة 2020 تُقدَّر بـ47 مليار دينار)، والمستحقات المالية التي تنازلت الدولة عن استخلاصها، قد فاقمت المديونية العمومية .

 

إن أحسن السيناريوهات الممكنة والمتمثِّل في التحكُّم في الأزمة في ظرف أسابيع، يمكن أن يعيد الحركية في السوق   الداخلية؛ ولكن حركة المبادلات مع الخارج ستأخذ وقتًا طويلًا حتى في هذه الصورة المتفائلة .

 

ويمكن من الآن الجزم باعتبار بعض القطاعات منكوبةً على المدى الطويل؛ إذ إن تعافيها لا يحتاج فقط إلى عودة حركة النقل مع الخارج إلى حالتها العادية، بل يحتاج أيضًا إلى عودة الحركة الاقتصادية في أوروبا والجزائر وليبيا إلى وضعية ما قبل ديسمبر 2019.

 

إن هذا الحكم – إن صحَّ – يستدعي البحث عن أفكار جديدة داخلية لدفع القطاع، أو يستدعي إعادة انتشار الاستثمارات في هذه القطاعات في مجالات نشاطٍ مغايرة .

 

في المقابل، فإن بعض القطاعات يمكن أن تستفيد من هذه الجائحة، ومنها القطاع الفلاحي، والصناعات الغذائية، وتجارة المواد الأساسية وأدوات التنظيف، والصناعات الصيدلانية، إلى جانب المؤسسات العاملة في قطاع المعلوماتية الذي سيكون أكثر القطاعات فرصًا وإغراءً .

 

الانعكاسات الاجتماعية :

 

إن إحدى أكبر المشكلات في تونس هي الهشاشة؛ إذ إن هشاشة البنية الاقتصادية قد أدت إلى هشاشاتٍ مركَّبة في الجانب الاجتماعي، وإلى توسُّع القطاعات الهامشية والأنشطة الموازية الخارجة في الوقت نفسه عن رعاية الدولة (حقوق التغطية الاجتماعية) وعن سلطة الدولة (الجباية).

 

فنسبة البطالة مرتفعة، حيث تتجاوز الـ 14.9% من اليد العاملة (أكثر من 620 ألفًا من المعطلين)، تتوزع على 12.1% بين الذكور و21.7% بين الإناث. وتتفاقم أزمة التشغيل في أوساط خريجي الجامعات لتصل إلى 27.8% من الخريجين (255 ألفًا) بنسبة 15.7% بين الذكور و38,1% بين الإناث .

 

كما أن مواطن الشغل ليست بنفس درجة الاستقرار، ولا تتوفَّر كلها على مردودية مالية تلبي الحاجيات الضرورية؛ إذ تكشف خارطة التشغيل اختلالاتٍ بين القطاع العمومي والقطاع الخاص، وبين القطاع المنظَّم والقطاع الموازي، وبين المؤسسات المستقرة وتلك التي تعاني من صعوباتٍ هيكلية .

 

قد تنجح الإجراءات التي أعلن عنها رئيس الحكومة في توفير مداخيل مؤقتة لفئاتٍ اضطرتها الجائحة إلى الانقطاع عن العمل، وقد تنعش مؤقتًا بعض المؤسسات الصغرى وتلك التي تمر بصعوبات، ولكن لا أحد بإمكانه أن يتنبَّأ بمصير آلاف العائلات المعتمدة على التجارة الصغيرة وعلى شغلها اليومي، ولا تلك العاملة في المؤسسات الصغرى والسياحة والنقل إذا طالت مدَّة الأزمة وتعقَّدت أزمة السيولة ومسالك التوزيع .

 

ولا أحد بإمكانه أن يتوقع الأوضاع بعد انجلاء الأزمة والدخول في مرحلة التعافي، مع صعوبة عودة بعض القطاعات إلى سالف نشاطها، ومع فرضية انسداد متنفَّس الهجرة أمام الإطارات الشابة، وخاصةً في قطاعات المعلوماتية والطب، بسبب لجوء الدول المستقبِلة إلى سياساتٍ حمائية، ومع فرضية تراجع تحويلات التونسيين بالخارج نتيجة الأزمات في بلدان الإقامة .

تبقى إدارة الضغوط الاجتماعية محتملة في صورة انكشاف الأزمة في أمدٍ قريب، أما إن طالت المدة فإن خيار الحجر الشامل يصبح مستحيلًا، وقد تقع بسببه توتراتٌ اجتماعية لنقص الموارد وصعوبة التزويد. وسيشكِّل اقتراب شهر رمضان ضغطًا نفسيًّا على العائلات وعلى السلطات العمومية .

أما إن طالت الأزمة في العالم حتى مع فرضية محاصرة الوباء وطنيًّا، فإن الطبقة الوسطى ستتعرض إلى مزيدٍ من  التهرئة، وستكون الأجيال الشابة عرضةً لمزيدٍ من الإحباط المنذِر بكل المخاطر. وهذا يفترض سياسة وقائية طويلة الأمد من الدولة والوزارات المعنيَّة، وخاصةً الفلاحة والتجارة، ويفترض اشتغالًا على تغيير نمط التدبير المنزلي واعتماد سلوكياتٍ تقشفية قد تصلح لإدارة الأزمة وقد تصلح لما بعدها أيضًا.

 

الخلاصة :

 

لقد أظهرت المقاربة التي اعتمدتها السلطات التونسية إلى حدِّ الآن قدرًا من النجاعة في التحكُّم في انتشار الوباء، وفي توفير الحدِّ الأدنى من متطلبات العيش للمواطنين. كما تميَّز  السلوك العامُّ بحدٍّ معقولٍ من الانضباط رغم بعض الانفلاتات .

 

ورغم ذلك، فإن الإدارة المؤسسية لم تفلح في إعطاء صورة انسجامٍ وتكاملٍ بين الرئاسات الثلاث، ولم تنجح في إخفاء التجاذب بين مراكز السلطة الأساسية نتيجة ثغرات دستورية، وتراكمات سياسية، وأوضاع حزبية، وصراعات زعامة، يُخشى أن تنفجر مع تواصل أزمةٍ لا أحد يدري متى تنتهي، ويُخشى أن تنفجر بعد نهايتها مع استقبال مرحلة جديدة لا عنوان لها إلَّا إعادة الإعمار والبناء في سياقٍ مختلفٍ جوهريًّا تتكثَّف فيه الضغوط والإكراهات .

 

كما لم تصل الإدارة الحكومية إلى أوجه مردوديتها، ولم تعطِ صورة الفريق المتنوِّع والمتكامل الذي يتشارك في تحمُّل  المسؤولية، ويتضامن في طمأنة المواطنين وتعبئتهم، ويخفِّف الضغط على فريق الواجهة.

في أوضاع الحروب مثل هذه، يكون انسجام القيادة بنفس قدر أهمية السياسات والإجراءات؛ إذ هو الوحيد الضامن لصوابيتها وديمومتها وسرعة وحسن تنزيلها.

إن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية قابلةٌ للتحكُّم بها في حالة أزمةٍ تدوم أسابيع، ويتطلب التعامل معها تفكيرًا مغايرًا في الحالة الأخرى  .

وبمزيدٍ من التضامن بين رؤوس الحكم، يكون الفريق الحكومي أمام فرصة لإدارة مرحلة امتصاص الأزمة، وأمام فرصة لإدارة مرحلة التعافي بأخف الأضرار، وبعض الإجراءات ذات الطابع الاجتماعي التي اتخذتها الحكومة خلال الشهر الماضي يمكن أن تتحوَّل إلى رؤية متكاملة في بناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية التي بشَّر بها دستور الجمهورية الثانية في سياقٍ دوليٍّ يعيد الاعتبار لدور الدولة وللأبعاد الاجتماعية والبيئية، ويعيد ترتيب الأولويات ليولي أهميةً كبرى لكل ما هو إنساني من تربية وصحَّة وكرامة، وبما في ذلك فلسفة تأجير العمل  .

 

توقعات:

 

في الظروف الراهنة لا أحد بإمكانه التوقع، فقد أعاد العقل اكتشاف فضيلة التواضع، وأصبح الجميع يتحدَّث عن الأزمنة ما بعد العادي، وعن ضرورة التعايش مع اللايقين، وعن خاصيات التعقُّد والفوضى والتناقض، حتى إنه ليصعب راهنًا إحصاء الاحتمالات الممكنة. فعوامل التأثير كثيرة، ولا تونس ولا غيرها متمكِّنة من هذه العوامل، فالأزمة عالمية بل إنسانية، والتحرك في أي مساحة يمكن أن يؤثر في غيرها، خاصةً بالنسبة إلى بلدٍ صغير ومفتوحٍ ومتعدِّد العلاقات .

غير أننا يمكن أن نعدِّد المداخل الأساسية التي تُعين في أثناء الحديث عن  المستقبل :

أولًا: مدَّة الأزمة، ولذلك صور متعدِّدة، منها انجلاء الأزمة في وقتٍ متقاربٍ دوليًّا، أو انجلاؤها في بعض الفضاءات (لأسبابٍ تتعلَّق بالمناخ والثقافة والإمكانيات وسلامة السياسات) مع استمرارها في فضاءاتٍ أخرى، ومنها الأزمة القصيرة المدى (أسابيع قليلة) أو المتوسطة (في حدود سنة) أو الأزمة المتكرِّرة على موجات  .

ثانيًا: الوضع في دولتي الجوار، حيث يتوقع تعقُّد الوضع السياسي والاجتماعي في الجزائر بسبب احتمال استمرار انخفاض أسعار النفط، وحيث تتقلَّص فرص الاستثمار في ليبيا حتى في صورة الاتجاه نحو حلٍّ سياسيٍّ يضمن الاستقرار للسبب نفسه .

ثالثًا: الوضع في الدول الأكثر تعاملًا، ونقصد هنا تحديدًا فرنسا وإيطاليا، وهما دولتان منكوبتان، وقد تلجآن في القريب إلى سياساتٍ حمائية قبل احتمال العودة إلى سياسات تعاون. ونرجِّح أن تكون ألمانيا أكثر منهما  مرونةً في التعامل مع تونس  .

رابعًا: مدى تماسك وتكامل المشهد المؤسسي في البلاد، ونعني بذلك العلاقة بين رأسَيِ السلطة التنفيذية ورأس السلطة التشريعية، ومدى استقرار الفريق الحكومي، وخاصةً في التعايش بين النهضة من جهة، والفخفاخ ومحيطه وحركة الشعب والتيار الديمقراطي من جهةٍ أخرى، ومدى استقرار الوضع في الأحزاب كلها .

إن أحسن المشاهد هو سيناريو أزمة تنقشع وطنيًّا وعالميًّا في أفق ثلاثة أشهر مع مشهد مؤسسي وطني معقول، وهذا سيفرض بالضرورة مراجعاتٍ جوهرية في المنوال التنموي، ومراجعاتٍ لدور الدولة ولموقع بعض القطاعات التي حركت الاقتصاد الوطني منذ سبعينيات القرن الماضي .

إن هذا المشهد يتيح لتونس أن تكون بلادَ فرصٍ مقارنة مع غيرها .

ومرة أخرى، تتأكَّد الحاجة إلى التضامن في مستوى الأوطان، والتضامن في مستوى الوحدات الجغرافية المتماثلة، والتضامن في المستوى الدولي. وهنا نتذكَّر مجددًا اتحاد المغرب العربي، وهنا نتذكَّر أن كورونا قد نجح في الاستفراد بنا؛ ولذلك فاقم من خسائرنا .

أما بقية المشاهد كلها، فتفضي إلى مقادير من المجهول يصعب معها التوقُّع، ولا حلَّ معها إلَّا المواكبة ومراقبة المعالجات التي تحصل في العالم والاستفادة من كل خبرةٍ جيدة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!