في ذكرى وفاته: القصة الكاملة لمعاناة المنصف بن سالم عالم الرياضيات الذي تحول في دولة القمع لبن علي الى بائع”معدنوس …شهادة خاصة”
تونس – الجرأة التونسية : محمد عبد المؤمن
في احدى ايام شهر ماي من سنة 2012 وبينما كنت في مكتبي منهمكا في العمل رن الهاتف وكان المخاطب الدكتور عبد الجليل التميمي .
كنت من الذين يداومون على سيمينار السبت في مؤسسة التيمي منذ سنوات طويلة وكانت هذه المؤسسة تستقطب اسماء هامة في السياسة والفكر وغيرها بما في لك قبل 2011.
اعود الى المكالمة حيث كنت اتوقع ان يؤكد علي الدكتور التميمي لأحضر سيمنار السبت لأهميته لكنه هذه المرة حدثني في موضوع آخر.
قال لي الاستاذ التميمي ان الدكتور المنصف بن سالم وهو وزير التعليم العالي والبحث العلمي حينها سيحضر الى المؤسسة في جلسة خاصة وانفرادية لتسجيل شهادته لتوثيقها وانه يطلب مني ان احضر معه لأوثقها معه وبإمكاني نشرها في الصحافة المكتوبة.
طبعا اسعدتني هذه الثقة في شخصي .
رويت هذا لأضع الشهادة في اطارها وهي مصورة بالفيديو اساسا وكنا في القاعة انا والدكتور التميمي والدكتور المنصف بن سالم فقط حيث استرسل صاحب الشهادة في رواية ” قصة حياته ومعاناته وألمه وصراعه مع الديكتاتورية ودولة القمع .
تدوين هذه الشهادة
هي رسالة الى الرجل الذي احترمته ,رحمه الله.
كلمة الاستاذ عبد الجليل التميمي :
أدلى د. المنصف بن سالم شهادة مؤثرة جدا حول التعذيب الذي مورس ضده أثناء سجنه.
وكما يعلم الجميع فإن منبر مؤسستنا مفتوح للجميع لتلقي أي شهادة من أية شخصية تونسية, بقطع النظر عن انتمائها الفكري أو السياسي, وتلك هي الاستقلالية التي نحرص على تبنيها خدمة للحقيقة التاريخية (تجدون طي هذا النص الكامل في ثلاث حلقات والذي أعده الصحفي محمد عبد المؤمن بتاريخ 28 و29 و30 ماي).
عبد الجليل التميمي
الشهادة
كان الأجدر التعامل مع عالم في اختصاصه بهذا الوزن والحجم بما يستحقه. فلو قبل البقاء في الغرب لكان صيته مثل صيت أحمد زويل أو أكبر، لكن قدر هذا الرجل أنه اختار البقاء في تونس كواجب وكرسالة لكن ما لم يتوقعه أو لعلّه لم يعطه الحجم الكافي هو أنّه اختار «تونس بن علي» في ذلك الوقت حيث يهمّش العلماء ويحقّرون بل ويحاربون. الأمر له وجهان على الأقل الأول، أن هذا الرجل الذي كان يحكم تونس بل يملكها كان يحمل حقدا ضدّ العلم والعلماء، ففاقد الشيء قد يكون عدوّه والأمر الثاني أن بن علي لم يعرف الحجم الحقيقي لهذا الشخص وعلمه وثقله المعرفي في العالم والا لما فعل به مافعل. ما أقصده بهذا هو الدكتور (ضارب2) المنصف بن سالم ولمن لا يعرفه من الجيل الحالي الا بصفته كوزير للتعليم العالي في فترة الترويكا فهو من كبار المنظرين العالميين في اختصاصه أي الرياضيات والمتحصل على دكتوراه دولة في الرياضيات من أكاديمية العلوم بباريس ودكتوراه الدولة في الفيزياء وديبلوم الهندسة الآلية وهو أستاذ مشارك في المركز الدولي للفيزياء النظرية وعضو الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالمركزية الدولية للرياضيات ببرلين وعضو اتحاد الجامعات الناطقة بالفرنسية وعضو المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا وعضو اتحاد الفيزيائيين والرياضيين العرب.
هذا أقصى اختصار لمسيرته العلمية والبحثية الطويلة جدا والأولى أن نحاور المنصف بن سالم حول العلوم والبحث العلمي لكنّ ولأنه جاء في زمن بن علي فإننا نستمع له ليحدّثنا عمّا ناله من قمع وتعذيب في دهاليز الرعب ودهاليز بن علي.
الأستاذ عبد الجليل التميمي خصص مساحة من الوقت لتوثيق شهادة المنصف بن سالم صورة وصوتا وقد أعطانا حصريا دون أي وسيلة إعلام أخرى الفرصة لنقل هذه الشهادة وهي خطوة رحّب بها السيد الوزير بل عفوا السيد العالم فالوزارة تذهب لكن العلم يبقى في الكتب وفي صدور الرجال.
بدأ المنصف بن سالم شهادته بملاحظة رأى أنها ضرورية وهي تأكيده بأن هناك أشياء لا يمكن أن تمحى من الذاكرة تلك الأشياء التي تمسّ الكرامة وتمسّ الإنسان في انسانيته لكن لهول وفداحة ما سيذكر من معلومات وتفاصيل رأى الشاهد ضرورة عدم ذكر الأسماء لعدم احراج أصحابها أو الإساءة إليهم من دون قصد. ضمن هذا يقول الشاهد: كل شيء أتحمّله وتحمّلته وذقت ألوانا من العذاب والتعذيب لا يتحمّلها بشر لكن ما كان يؤثر فيّ هو أن أرى بعيني ما يحصل لغيري من تعذيب ومسّ لكرامته ومع أني سأتجنب ذكر الأسماء لعدم اثارة فضيحة للآخرين الا أن التفاصيل يجب أن تذكر وتسجّل في الذاكرة ليحفظها التاريخ للأجيال القادمة، بل حرام أن تمحى فهناك أناس عُذّبوا وأناس قُتلوا وأناس انتهكت حرماتهم فكيف تُنسى هذه الأشياء «من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا». وبالتالي فعندما نتحدّث عن المظالم والإضطهاد فهذا ليس من أجل شخص بل للتاريخ والحضارة والعلم والثقافة وما تعرضت له كان دفاعا عن علمنا وانسانيتنا فالله سبحانه كرّم الإنسان وقال:«كرمنا بني آدم» ولم يقل العرب بل الإنسانية جميعا.
عندما تتداعى الذكريات والدموع
في هذا المستوى يبدأ المنصف بن سالم توثيق شهادته حول التعذيب والإضطهاد قائلا:«البداية صعبة فكيف لشخص أن يسترجع في زمن قصير 23 عاما من الألم والمعاناة تركت بصماتها نفسيا لأن ميزة هؤلاء الجلادين أنهم لايتركون أثرا جسديا حتى لا يقوم المتضرّر بالتظلّم، والاضطهاد لم يطل الشخص المعني فقط بل تجاوزه الى عائلته وأقاربه وحتى جيرانه بل التعذيب والقمع لم يقتصر على البالغين بل أصاب حتى الأطفال.
أول حادثة يرويها الشاهد هي فيما يخص تعرّض الأطفال للتعذيب وفي هذا يقول:«رغم كل ما تعرضت له من تعذيب شنيع بقيت صامدا ولم تنزل دمعة من عيني الا في مناسبتين: الأولى وأنا أشاهد ما كان يتعرّض له الصادق شورو من تعذيب رهيب رغم أنه كان عليلا وضعيف الجسم والأمر الثاني الذي أبكاني بحرقة وأشعرني بالألم والقهر هو تعذيب الأطفال.
انتهاكات فادحة
قد يتصوّر البعض أن الحديث عن تعذيب الأطفال لا يخص بلادنا إنّما هو في بلدان مثل الكونغو أو رواندا لكن ما يتحدث عنه المنصف بن سالم هو في سجون بن علي في تونس ويروي الشاهد التفاصيل: في عام 1992 كنت معتقلا في سجن الڤصرين وفي يوم جيء بمجموعة من الأطفال بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة وهم يحملون محافظهم ودخلوا السجن وكنت حينها أنظر من شقّ الباب وأتعجّب: ماذا يفعل أطفال في هذا العمر في سجن الڤصرين المرعب، وبحسن نيّة قلت لعلّهم جاؤوا ضمن زيارة مدرسية لكن مباشرة قام أعوان بنزع محافظهم وأحزمة سراويلهم وخيوط أحذيتهم وكان عددهم بين الـ 12 و15 طفلا كانوا يبكون ويتوسلون حتى لا يُضربوا ويقولون أنهم لم يفعلوا شيئا وقد بقيت حائرا: ماذا يحدث هنا؟ وللأسف علمت فيما بعد من بعض السجناء أنّهم عذّبوا وتمّ الإعتداء عليهم جنسيا. وعن تفاصيل موفية لهذه المعلومات قال الشاهد: في ذلك اليوم وفي حدود منتصف النهار أدخل معنا في الزنزانة كهل وكان كثير الصمت بل كان لايتكلّم الا قليلا «بالقطّارة كما نقول» وذلك لأنهم كانوا يمنعون أي أحد من التكلّم معي وبالمناسبة فإنّ الزنزانة التي كنت فيها كانت تضمّ 100 سجين25 منهم محكومون بالإعدام وكنت أنا الوحيد سجينا سياسيا ويواصل الشاهد: سألت همسا هذا الرجل عن حكاية هؤلاء الأطفال فانتحى جانبا وقال لي«كنت في المحكمة وكانت قضيتهم قبل قضيتي وكان القاضي ينادي كل طفل ويسأله هل تعرف راشد الغنوشي والنهضة؟ فيقول له لا، فيقول له هل تصلي؟ فقام واحد من الأطفال وهو يبكي وقال لأحد المحامين: قل لي من هو راشد حتى أخبر الرئيس فلا يعاقبني ونال كل طفل سنة سجنا وبعدها بأسبوع قبض على ستّة أساتذة للتربية الإسلامية بتهمة تعليم الأطفال الصلاة وحكم عليهم 15 عاما سجنا. لكن ما لم أعلمه هو كيف قبض على هؤلاء الأطفال ولماذا حوكموا؟ الشخص الأول الذي سألته قال لي أنه تركهم في بيت القصّر لكن بعد أسبوعين دخل معي السجن عمدة أو «شاوش معتمد» نسيت بحكم مرور فترة طويلة، وفي مناسبة سألته عن حكاية الأطفال فقال لي:رئيس مركز شرطة بمنطقة ما وُبّخ من طرف أعرافه لأنه مقصّر ولا يقوم بواجبه في القبض على المتطرفين والمصلّين فأتجه في اليوم التالي الى مدرسة ودخل أحد الأقسام وسأل التلاميذ من يصلي وكلّ من رفع اصبعه أخذه وهكذا أخذ زبدة هذا القسم من التلاميذ. ويعلّق الشاهد على هذه المأساة قائلا: هذا الأمر كان مؤلما جدا بالنسبة لتلاميذ لم يتجاوزوا الثالثة عشرة او الرابعة عشرة من العمر يتعرضون للاعتقال والمحاكمة ثم القمع والإعتداء. ألا يجعلنا هذا نحسّ بالقهر. فالظلم تجاوز الرجال الى النساء والأطفال.
الجزء الاول