طه حسين أول من اكتشف كافكا عربيا ودافع عنه… وجعله حفيدا لأبي العلاء المعري

كتب عبده وازن

لعل أهم ما يكشف عنه كتاب الباحث الأكاديمي عاطف بطرس العطار “كافكا عربياً: أيقونة تحترق” (منشورات المتوسط 2019) هو ريادة طه حسين، “عميد الأدب العربي” في التطرق عربياً إلى كافكا والكتابة عنه، بل الدفاع عنه إزاء الحملات التي أعلنها ضده النازيون في ألمانيا والشيوعيون في فرنسا وتشيكوسلوفاكيا.  كان حسين سباقاً فعلاً في مقاربة صاحب “المسخ” نقدياً وفي تعريف القارئ العربي برواياته وأدبه والإشكالات التي اكتنفت شخصه ومساره. وبدت مقاربة حسين للكاتب الشاب عميقة وجادة ونمت عن سعة الثقافة التي عرف بها الكاتب الضرير وعن نزعته الطليعية وميله إلى الثورات الأدبية الحديثة. ففي العام 1946 كتب حسين في مجلة “الكاتب المصري” التي كان يرأس تحريرها، مقالة ضافية عنوانها “الأدب المظلم”، تناول فيها قضية كافكا التي كانت قد أثارت في العام نفسه نقاشاً في باريس التي كان يقيم فيها حينذاك، وكان حافزه الرد على الهجوم الذي شنه ضد كافكا مثقفون فرنسيون ينتمون إلى الحزب الشيوعي واصفين أعماله بـ “الأدب المتردي والهدام”. واختار حسين عنوان مقالته ذريعة لاستعادة رموز التشاؤم في الأدب العربي القديم، والانطلاق منها في قراءته ظاهرة كافكا. وكان في مقدم الأدباء المتشائمين الشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعري، أحد مراجع فكر حسين وأدبه، والمثال الذي اقتدى به صاحب “الأيام” لا سيما أن ما جمع بينهما، هو العماء والتنوير. لكنّ حسين لم يكتف بما كتب عن كافكا في هذا السياق، فهو أقدم على نشر أول ترجمة عربية لأحد نصوص كافكا في مجلته بعد خمسة أشهر، والنص هو قصة شهيرة بعنوان “طبيب القرية”، وقد نقلها إلى لغة الضاد الرسام السوريالي والناقد المصري رمسيس يونان، الذي كان ينتمي إلى جماعة “الفن والحرية” الفرنكوفونية المصرية التي أسسها الشاعر السوريالي جورج حنين، وتوزع نشاطها بين مصر وفرنسا. وبدا واضحاً أن رمسيس اختار هذه القصة للترجمة من مختارات بالفرنسية للأدب الألماني نشرتها إقبال العلايلي، زوجة جورج حنين، في القاهرة عام 1945.

واللافت أيضاً أن طه حسين كتب مقالاً ثانياً حمل اسم فرانز كافكا عنواناً ونشره في المجلة نفسها العام 1947 وخصّ به كافكا كاملاً وقدم بعض رواياته مثل “القضية” (أو المحاكمة) و”القصر” و”أميركا”. أصر حسين إذاً على المقارنة بين أديب براغ وأبي العلاء، على الرغم من البون بينهما في الزمان والمكان، كما في النوع الأدبي نفسه. ولعل إصراره هذا يدل أولاً على علاقة ثلاثية “معقدة” كما يصفها العطار، جمعته هو التنويري والليبرالي والنهضوي، بالمعري الشاعر العباسي العقلاني المتمرد الذي خصه بأكثر من دراسة، وبالكاتب الشاب كافكا أحد أبرز وجوه الحداثة الغربية. ويرى العطار أن طه حسين في ترسيخه هذه العلاقة الثلاثية الداعية إلى الاستغرب فعلاَ، انطلق من أزمته ولحظته الراهنة حينذاك، إلى هاتين الشخصيتين الفريدتين في سياقيهما التاريخي والثقافي، ليضمهما إلى مشروعه الفكري القائم على سؤال النهضة والعلاقة المأزومة مع التراث وسدنته التقليديين. لكنّ هاتين الشخصيتين تحضران رمزياً في تجربة حسين، وفكرياً وليس أدبياً أو إبداعياً. فأبو العلاء شاعر أسير “لزوم ما لا يلزم” كما يقال عنه، صاحب مراس صعب وصنعة مثابرة، وطه حسين مفكر تنويري وناقد أدبي وروائي لم يتخطّ في أعماله السردية دائرة الواقعية ذات النفحة الرومنطيقية. أما كافكا فهو سليل العصر الوجودي والعبثي، والأدب اللامعقول والمتخيل، والطالع من عمق الأزمة الحضارية التي عاناها الغرب غداة الحرب الأولى وعشية الثانية التي جلبت معها النازية والدكتاتوريات الشمولية.

 

كان لمقالَيْ طه حسين في “الكاتب المصري” أثر بيّن في الأوساط الأدبية العربية، فهما عرّفا القراء العرب للمرة الأولى بهذا الكاتب الإشكالي، على الرغم من أن الشاعر المصري الفرنكفوني جورج حنين كان كتب عنه مقالاً بالفرنسية العام 1939 ونشره في مجلة “مفتاح” (كليه) في باريس، فظل محصوراً بالقراء الفرنكوفونيين فقط ولم يصل إلى قراء العربية. وكما تمت الإشارة كان حسين في باريس العام 1946 عندما تعرض كافكا لحملة نقدية قامت بها الجماعة الماركسية ساعية إلى تشويه صورته وأعماله وتجربته الفريدة. وطرحت الجريدة الأسبوعية للحزب الشيوعي الموالي للاتحاد السوفياتي سؤالًا مثيراً هو: “هل يجب إحراق كافكا؟”، وأدى هذا السؤال إلى انشقاق في صفوف المثقفين الفرنسيين، بين رافضين لكافكا ومؤيدين له. وكان على حسين أن يتابع هذا السجال بشغف وعن كثب، وعندما عاد إلى مصر في العام نفسه كتب مقاله الأول “الأدب المظلم”، ومثّل هذا المقال كما يقول العطار “الاشتباك النقدي الأول مع كافكا في اللغة العربية”. وسعى حسين إلى إدراج أدب كافكا في سياق الأدب المتشائم الذي كان رائجاً في أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين، وتتبع جذور هذا الأدب منذ العصور القديمة، الإغريقية والرومانية واليهودية والأدب العربي القديم وصولاً إلى أدب العصر الحديث. وفي مضمار الأدب العربي القديم توقف حسين أمام شاعرين كبيرين هما المتنبي وأبو العلاء المعري. إلا أنه كان معجباً أشد الإعجاب بـ “أستاذه” أو شيخه المفضل أبي العلاء، فقارن بينه وبين كافكا، معرباً عن أسفه لاتهام كليهما كل في عصره، اتهاماً سطحياً بالتشاؤم والتردي وكتابة الأدب الهدام. ويرى أن كافكا ذهب مذهب أبي العلاء في التشاؤم، على الرغم من الزمن الذي فصل بينهما. بل هو عد كافكا “حفيداً” للمعري. فالتشاؤم تجلى في أشكال مختلفة، عبر العصور كافة، فهو متأصل في صميم الأزمة الإنسانية الوجودية. وفي رأيه أن كافكا “تمكن من إخراج تشاؤمه في فنه الروائي الرمزي الغامض في شكل رائع”.

 

 اربع محن

 

أما في مقاله الثاني وعنوانه “فرانز كافكا” (أو كفكا) فقدم فيه سيرة صاحب “القصر” وأعماله. ورأى أن كافكا واجه خلال حياته القصيرة محناً أربعاً، هي: الموروث الديني، سلطة الأسرة أو بالأحرى الأب، النساء والمرض. وفي هذه المقاربة نجح حسين في رسم خريطة معاناة كافكا وصراعه المتعدد الوجوه. ويصيب أيضاً في قوله إن كافكا لم يكن مدوّناً لملاحظاته الثاقبة فقط، بل كان هو موضوعها أيضاً. ويرى أيضاً أن أدب كافكا قائم بين عالمين، عالم بسيط ويسير وسائغ الفهم، وعالم آخر مسرف في الغرابة والغموض. والمقصود جمعه بين الواقعية واللاواقعية، بين الحقيقي والغرائبي، لا سيما في روايته القصيرة “المسخ” وبعض قصصه. ومن أجمل ما استخلص حسين أن كافكا لم يكن ينهي قصصه، فهو غير قادر على أن يفعل هذا، بل هو لا يسعى إلى إنهائها. يكتب كافكا حتى يدركه الإعياء، بل حتى يجد نفسه أمام سد منيع، فيسلك طرقاً أخرى. ولا هم لديه في الانتهاء إلى غاية ولا في إضفاء مغزى على قصصه، فهو يائس من الغاية أو مثيل اليائس منها.

 

يتناول حسين بعضاً من أعمال كافكا بدءاً من رواية “القضية”، فيستعرضها ويحللها ويرى فيها نموذج الإنسان (جوزف. ك) الذي يعلم أنه مذنب ولكن لا يعرف طبيعة الذنب أو سببه، ولا يعرف أيضاً سبيلاً إلى التحرر من هذا الذنب. ويعتقد بوجود قانون ومحكمة وقاض، مدركاً في الوقت نفسه تعذّر وصوله إليهم، فهو إنسان بائس أُجبر على الحياة من دون إرادته، وأُجبر على الموت من دون إرادته. وهو يؤمن أيضاً بوجود سلطة فائقة تتحكم بمصيره، وسبب شقائه هو انقطاع الصلة بينه وبينها. يقول حسين: “كاتبنا إذاً، لا يجحد الإله، لكنه لا يعرفه ولا يعرف السبيل إليه. وهو مشوق أشد الشوق إلى أن يعرفه”. ويعرّج حسين على رواية “القصر” فيرى في خلاصتها أن الإنسان يبدو غريباً، لا يدري من أين جاء ولا إلى أين يذهب، عُهد إليه أداء عمل معين لكنه لا ينجح فيه، فالصلة بينه وبين القصر الذي دعاه منقطعة، على الرغم من أن القصر موجود ويدير أمور البلدة وناسها من بعيد. وهنا يقارن حسين بين “القضية” و”القصر” من خلال مفهوم السلطة الموجودة والفشل في معرفتها أو الوصول إليها. وفي تناوله رواية “أميركا” يعارض حسين رأي الكاتب اليهودي ماكس برود، صديق كافكا وحافظ مخطوطاته، حول مفهوم الأمل في المعنى العقائدي. فحسين يرى أن بطل الرواية “كارل” يفشل في إيجاد طريق، فالقطار الذي يقله لا يصل به إلى مكان، بل إن مبدأ وصوله سيظل مبهماً. وهذا ما يجعل الرواية بلا نهاية جراء عجز الكاتب عن إنهائها.

 

قضايا جوهرية

يستخلص طه حسين في مقاربته الكافكاوية ثلاث قضايا رئيسة: تعذّر إيجاد صلة بين الإنسان وخالقه، تعذّر فهم إثم الإنسان على الرغم من اعترافه بإثمه، جهل مغزى الحياة. هذه القضايا وسمت أعمال كافكا بالسوداوية والكآبة. وهذه القضايا هي التي حفزت النازيين والشيوعيين على اتهام أدب كافكا بدفع الإنسان إلى الاستسلام وتثبيط عزيمته وسلبه الأمل. دعا الشيوعيون إلى حرق كتبه في فرنسا وأحرقها النازيون في ألمانيا ومنعوها من التداول.

غير أن كتاب الباحث الإكاديمي العطار، لا يقتصر على ظاهرة العلاقة بين طه حسين وكافكا، فهو كتاب شامل في ما طرح وعالج وبحث في ميدان التلقي العربي لكافكا وأفاض أحياناً وفتح أبواباً مهمة ولكن لا علاقة لها مباشرة بكافكا مثل: تاريخ النهضة العربية، سيرة طه حسين، سيرة جورج حنين والجماعة السوريالية الفرنكوفونية “الفن والحرية” وسواها. ويبدو الكتاب كأنه يكمّل كتاب الناقد العراقي نجم عبد الله كاظم وعنوانه “كافكا والكافكاوية والرواية العربية والبحث عن الخالص” (2018) وكل ما سبق من أبحاث مجتزأة ومقالات كتبت عن كافكا، ناهيك عن الترجمات. ومن خصائص كتاب العطار إدراجه مسرداً توثيقياً في كل ما ورد مبدئياً عن كافكا في اللغة العربية. وهو أصلاً أطروحة دكتوراه أنجزها العطار في ألمانيا ونقلها إلى العربية.

المصدر: independent arabia

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى