الهجرة إلى الشمال
كتب أحمد الفيتوري في صحيفة الأندبندت:
(… أنا جنوبٌ يحنُّ إلى الشمالِ)، قال “مصطفى سعيد” شخصية الرواية العربية الأشهر “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي السوداني الطيب صالح.
1-
طالعتُ رواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” في مقتبل العمر، وكنت متيماً برواية (زوربا) لليوناني كازانتزاكيس، فغدوت شغوفاً بـ(بيضة الطيب). لذا في أثناء رحلة صحافيَّة والزميل المرحوم أحمد الحريري إلى الجنوب الليبي، اقترحتُ أن تكون سلسلة ما كتبنا معاً عن تلك الرحلة تحت عنوان (موسم الهجرة إلى الجنوب). وقد نُشر ما كتبناه بجريدة “الأسبوع الثقافي” الليبية: “تهز جذع نخلة فتتساقط ميتة، لتنهض نخلة من فولاذ، تمتص رحيق الأرض، (حفارات البترول)”، وكان ذلك نهاية عام 1978، إذ عُدت من الرحلة في اليوم نفسه إلى السجن، مُتهماً بالانضواء تحت حزب مناهض لسلطة الشعب!
ما نشرنا من كتابات صحافية، كما معارضة لحنين مصطفى سعيد إلى الشمال، فرفيقي أحمد الحريري شاعر غنائي رومانتيكي، وكنت شاباً في السنة الثانية والعشرين ونيف من عمري، ومُعتقدنا كما معتقد الطيب صالح، “أن الاستعمار يصبح جرثومة فتَّاكة، إذا جعلنا من أنفسنا مسرحاً لها، ونظرنا إليها على أنها قدرٌ، تحَكمَ في ماضينا، وما زال مستمراً في الحاضر، والمستقبل”، أو كما قال الباحث (محمد شاهين) “الطيب صالح، حين كتب (موسم الهجرة إلى الشمال)، كتب رواية واقعية حداثوية، لغتها شعرية مكثفة، شخصيتها الرئيسة فرويدية، تعاني عقدة أوديب، بدأت جين مورس، امرأته التي قتلها، كما قتل للأب الاستعمار”، هكذا تمت قراءة الرواية من بعض النقاد.
ولم أنتبه حينها، أن رواية الطيب صالح، سفر العنف، كُتبت أثناء الهجرة الأولى للجنوبيين إلى الشمال، ما بعد الاستعمار، ما حدث عقب الحرب الأوروبية الكبرى الثانية. مع تحقق نتائج، مشروع مارشال الأميركي في أوروبا، نهضت دول الاستعمار من كبوتها الكبرى الثانية (التنافس الإمبريالي)، حيث اجتاحتها حاجة مُلحة إلى العمالة مع خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بدأ “موسم الهجرة إلى الشمال”.
الرواية حافلة بالعنف، فالشخصية محاطة بضغط الحنين إلى الشمال الذي هو الحداثة، ما تطحن وجود مصطفى سعيد، الممزق بين أنه أداة للحداثة الممثلة بالغرب، وأنه الجنوب الذي عبارة عن مزود لهذا الغرب بالطاقة: البشرية، المواد الأولية، وما في حكم ذلك. لذا مصطفى سعيد مسلوب الروح، فالهجرة ليست خياراً، فهي نتاج الاستعمار ما بات كـ(جرثومة فتَّاكة)، فعندما عاد إلى السودان لم يجد ذاته، لقد بات كمعضلة، نهايتها المحتومة بالغرق في النهر، ما لم يعد أداة للنماء، فالحداثة كما سلبت مصطفى سعيد روحه، سلبت النهر فعليته، ما غدت قديمة، ومتهالكة مع التطور الصناعي والتقني، ومع هذا التطور ستنضب الحياة، وتجف عروقها.
2-
“موسم الهجرة إلى الشمال”، رواية مواسم الهجرة المضطردة، حين كُتبت الرواية كانت الهجرة المرغوبة من الغرب على أشدها، وفي أثناء هذا قام الغرب وتوابعه باستنزاف الطبيعة وتهديد الأرض، ما نتج عنه أن قارة أفريقيا دفعت الثمن النفيس. ومن هذا فالرواية رؤيوية، وتصورية لمستقبل محتوم! فالقارة التي جعلها الاستعمار في مرحلته الأولى مزرعةً للعبيد في مرحلة ما بعد الاستعمار، أضحت الضحية الأبرز لاستنزاف الطبيعة وتدمير الأرض، خصوصاً أنها عاشت هذه الحقبة في حروب بالوكالة مضطردة.
الضعف البنيوي للقارة، وهشاشة تضاريسها وموقعها الجغرافي، جعل من خط الاستواء كما لعنة، فالقارة زاخرة بالثروات، وهي حديقة الأرض للحيوانات والنباتات، وفي العصر الحديث، كانت مخزن المواد الأولية، للدول الاستعمارية/ الكومنولثوالفرانكفونية، وحتى اليوم الاستنزاف الأكبر للقارة السمراء، قارة اليورانيوم والماس، يتم من قبل الدول الصناعية الكبرى.
إضافة إلى ذلك، تجارة العبيد عادت من جديد في صيغة عصرية، وفي هذا الحال يُشاع أن الأفريقيين يبخسون الحياة، وأنهم كما باع الفلسطينيون أرضهم يبيعون أرواحهم، وأنهم مخلوقات أدنى، تلهو بالحروب الأهلية، وقادتهم يهوون الانقلابات، وأن قوات الأفريكوم الأميركية والقوات الفرنسية الخاصة لحمايتهم من الإرهاب، أما قطعان المهاجرين غير الشرعيين فإنها مسألة ليست مهمة أحد.
هذه الرواية التخيلية، كأنما دراسة سسيولوجية ورصد شفاف لـ(موسم) هجرة إلى الشمال، الناتج عن حالة الاستعمار، ما لم يخرج من مستعمراته البتة، بل أعاد توزيع تموضعه، ولهذا عند احتياجه إلى قوة بشرية رجع إلى مستعمراته، بريطانيا إلى الهند واليمن وغيرهما، وفرنسا إلى دول المغرب العربي وأفريقيا، هكذا تناسلت مسألة الهجرة منذئذ، غير أن اليوم أضيفت لازمة اللا شرعية.
الطيب صالح كتب رواية تخيلية، رواية الشخصية المعطوبة، مصطفى سعيد شخصية حية لا نمطية، ولذلك هي شخصية كاشفة للعلاقة المعطوبة بين الجنوب كمستعمرة، وللشمال كمُستعمِر، فمصطفى سعيد شخصية لا شخصية لها، سوى كانت في الشمال أو الجنوب، بل إنها شخصية تكون في الخفاء، وإن تجلت انمحت، وهويته في الشمال تتجلى في كهف بدائي، كما ملهى ليلي سري، فيه مصطفى سعيد الفحل.
سلالة مصطفى سعيد تتناسل، واليوم حملت كنية جديدة: الهجرة اللا شرعية.
المصدر: أندبندنت