محمد عبو يكتب : تونس والكيان الصهيوني، معطيات منقوصة

محمد عبو يكتب:
لنخرج قليلا عن موضوع ما يسمى بمشروع الدستور، سيسقط بسقوط قيس سعيد، ولنعتبر الأمر بسلبياته وتكلفته فرصة لمعرفة عمق أزمتنا الثقافية وهشاشة مجتمعنا وقابلية جزء كبير منه للوقوع في أي مشروع تافه قبل قيس ومع قيس، ولتحديد مسؤولية الفشل في إنارة العقول في العشرية الأخيرة، ثم البناء على ذلك.
سنة 1982 وعلى إثر الهجوم الصهيوني على بيروت واضطرار منظمة التحرير الفلسطينية للمغادرة، اتصل الرئيس الحبيب بورقيبة بها ( بعد استشارة فرنسا والولايات المتحدة حسب شهادة للسيد أحمد بنور) عارضا عليها استقبالها في تونس إذا رغبت في ذلك، ووافق عرفات على هذا العرض بديلا عن عرض سوري آخر، وأصبحت تونس مقرا لمنظمة التحرير.
قبل اتفاق أوسلو المبرم سنة 1993 ومغادرة ياسر عرفات وقيادات منظمة التحرير لتونس، قصفت طائرات الكيان الصهيوني حمام الشط في غرة أكتوبر 1985، ثم قام كومندوس عسكري صهيوني باغتيال الشهيد “أبو جهاد” في 16 أفريل 1988 في سيدي بوسعيد .
هل يتصور أحد أن المخابرات الصهيونية لم تكن ترتع في تونس على الأقل منذ 1982 ؟ هل تم إلقاء القبض على أحد أفرادها ؟
لم نسمع يوما بقضية مماثلة في تونس. فهل هذا ضعف في أجهزة الأمن التونسية؟
أبدا من مصدر مطلع نعلم أنه تم التفطن لجواسيس صهاينة وتمت حتى إيقافات لبعضهم في فترة حكم بن علي، ولكن لم تقع محاكمتهم، فما السبب؟
بعد الثورة وفي سنة 2016 وعلى إثر اغتيال الشهيد محمد الزواري استوقف أعوان أمن صحفي بصدد التصوير في شارع الحبيب بورقيبة واستظهر لهم بجواز سفر دولة أوروبية، وفي بضع دقائق تم التعرف على هويته وكونه يحمل جنسية الكيان الصهيوني كالتعرف على معلومات مهمة عنه، وصدرت التعليمات بترك سبيله، ما مكنه من مغادرة بلادنا وتم عرض تحقيقه الصحفي على القناة العاشرة للكيان الصهيوني، وهو التحقيق الذي انتشر على الشبكة الاجتماعية في تونس وقتها.
القضية الوحيدة التي تخص الاعتداء على أمن الدولة الخارجي في علاقة بالكيان الصهيوني في عهد بن علي حسبما توفر من معلومات، هي قضية ضد كاتب الدولة للأمن الشادلي الحامي الذي حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن في التسعينات، في حين يؤكد بعض من اشتغل تحت إمرته أنه كانت من أهم انشغالاته البحث بجدية عن قضايا تجسس للموساد في تونس، ويؤكدون أن التهمة لفقت له لخلاف مع العائلة الحاكمة وقتها، وهناك طبعا رأي آخر في الموضوع، وقد يثبت يوما السبب الحقيقي لسجنه.
حسب علمي هناك بعد الثورة قضية منشورة لدى القضاء تتعلق باغتيال الشهيد محمد الزواري فيها أشخاص يعملون مع مخابرات الكيان وقضية أخرى تتعلق بالتجسس على علاقة بنفس الكيان، وهناك خبر عن كون صهيونية ورد اسمها في الملف بقيت تزور تونس في حج الغريبة دون أن تخشى إيقافها ولم تتوقف عن زيارة جربة إلا بعد أن تم نشر صورها في الغريبة ونشر أخبار عن تورطها في قضية اغتيال الشهيد الزواري، بقطع النظر عن صحة دورها في هذه العملية بالذات من عدمها.
اليوم وبعد ارتفاعنا الشاهق في التاريخ، وقع تجاوز مبدأ الاكتفاء بزيارة الغريبة والاكتفاء بالإقامة ببعض النزل إلى مزيد حرية تجول زوارنا من الكيان الصهيوني داخل بلادنا.
لماذا تتعامل دولتنا في مختلف الحقب بهذا التخاذل أوالتواطؤ مع جرائم الاعتداء على أمن الدولة المورط فيها صهاينة ؟
الرئيس بورقيبة يحسب له أنه هدد بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة بعد عدوان حمام الشط إذا مارست حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي ضد قرار إدانة الكيان الصهيوني وأتى التهديد أكله، ولكن ما يحسب عليه أنه بداية من سنة 1986 بدأ نظامه يضيق على الفلسطينيين حتى بدأوا يغادرون بلادنا!
لما أصبح بن علي رئيسا سنة 1987 تحسن تعامل السلطة مع الفلسطينيين، وقد يفهم هذا في معنى إيجابي كما قد يفهم في معنى سلبي من قبيل ” إنهم هنا تحت نظري” خاصة مع بدايات مفاوضات السلام.
بقيت عملية اغتيال الشهيد أبو جهاد تثير كثيرا من نقاط الاستفهام. كانت هناك تسريبات صحفية صهيونية عن العملية، ثم اعترف الكيان بجريمته بعد 24 سنة أي في سنة 2012، وما تم نشره عن العملية اختلف جزئيا عن الرواية التي عرضتها التلفزة التونسية وقتها مع صور السيارات الثلاث المتروكة على شاطئ رواد، كما أن من الصعب الاقتناع برواية وصول الكومندوس عبر البحر ثم التنقل بعربات إلى الضاحية الشمالية مع مخاطرة الاستيقاف من دورية أمنية والدوريات كثيرة جدا في تلك المنطقة، ليلة سبت وعلى مقربة من القصر الرئاسي ومنازل مسؤولين وسفراء، هذا بالإضافة إلى الشهادات عن غياب عنصر الأمن التونسي ليلتها بالإضافة إلى تصريح أرملة الشهيد بعد الثورة والتي أشارت لتواطئ تونسي.
مع هذا لنقل مؤقتا في غياب الدليل أنها عمليات مباغتة لا تواطؤ فيها، حتى يأتي يوما من يبحث في الملف ويعطي التونسيين والفلسطينيين حقهم في معرفة الحقيقة، وبعيدا عن الجانب المخابراتي، وفي الجانب السياسي أو بالأحرى في جانب السياسة القذرة وهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا، في سنة 2002 وبمناسبة ترشح السيدة سهام بن سدرين لنيل جائزة ساخاروف التي يسندها البرلمان الأوروبي لمدافع عن حقوق الإنسان، راسلت السفارة التونسية ببروكسال نواب الاتحاد الاوروبي لعدم منحها الجائزة مستندة لكراهيتها لليهود ومعاداتها للسامية! ونفس الأمر تم معي ومع غيري بنفس الطريقة.
لما استدعى بن علي شارون لزيارة تونس سنة 2005 للمشاركة في القمة العالمية لمجتمع المعلومات، تحركت كثير من المنظمات القريبة من الكيان الصهيوني لنصرته والتهجم على معارضيه، واستغل هو هذه الدعوة لتصفية حسابه مع معارضيه، كما صدرت التعليمات للأمن للتعامل بقسوة مع المظاهرات التي خرجت للاحتجاج على الدعوة، ويكفي هنا استحضار صورة الأستاذة راضية النصراوي وقد أصيبت بجروح في رأسها في إحدى هذه المظاهرات.
قد يكون نظام بن علي استفاد بهذا وبغيره من دعم غربي، حتى أن كثيرا من السياسيين في أوروبا كانوا في آخر فترة حكمه منزعجين من انتهاكاته لحقوق الإنسان ومن ضغط المجتمع المدني والصحافة عليهم بسببه، ولكنهم كانوا يدعمونه لكونهم يعتبرونه “حصنا ضد الإسلاميين والتطرف” حسب ادعائهم، ليعبر بعضهم عن ندمه عن هذا الدعم بعد الثورة التونسية ولتكتفي فرنسا بالتضحية بوزيرة خارجيتها وقتها ” ميشال أليو ماري” التي أعلنت في الجمعية الوطنية أيام الثورة أن بلادها مستعدة للمساعدة بخبرات الشرطة الفرنسية لحفظ النظام في تونس، والتي أصبحت لاحقا موضوع تحر صحفي عن العطل التي كانت تقضيها في تونس والخدمات التي تمتعت بها مجانا.
المهم أن هذا لم يمنع خروج بن علي خائفا من تونس، بعد تحرك جزء من شعبه ضده وتمرد بعض الأمنيين عليه، ولم يمنع قائد طائرته من العودة بها إلى تونس دونه، ولم يمنع جيشه من مماطلته لكي لا يعود، ولم يمنع البعض من أقرب الناس إليه من الانضمام إلى شعبهم اقتناعا أو خوفا، لا يهم.
هل المطلوب اليوم هو إعلان الحرب على الكيان الصهيوني مثلا؟
المطلوب سياسة نظيفة وعقلانية وبعيدة عن الشعبوية في أمر يخص موقفنا من القضية الفلسطينية، وأمر آخر يخص تعامل الدولة مع المواطنين بشفافية.
فيما يخص القضية الفلسطينية، يبقى تقيدنا بعدم التطبيع مع الكيان الصهيوني كوسيلة سلمية للدفاع عن هذه القضية، هو الموقف الذي يجب التسويق له دوليا، وتبقى صورتنا الجميلة التي رسمناها في العالم بعد 14 جانفي 2011 قبل أن ننحرف تدريجيا، هي أحسن دفاع في الغرب عن القضية الفلسطينية، باستبدال صورة العرب لدى الغرب كبرابرة يهددون “دولة اليهود ضحايا النازية”، وهي صورة راسخة جدا في ذهن الغرب لأسباب يطول شرحها بصورة العرب المتحضرين القابلين للعيش في أنظمة ديمقراطية متطورة تحترم فيها كرامة البشر، وهو رأي أشير إلى أن القيادة الفلسطينية تبنته في لقاء عند زيارتها لتونس بعد الثورة، ولا أظن الصهاينة قد تغافلوا عنه من ناحيتهم.
على مستوى سياسة دولتنا مع مواطنيها، وهي كسياسة كثير من الدول العربية، عندما يحكمها حكام يخشون على كراسيهم من شعوبهم أو من جيوشهم، فإن الكيان الصهيوني قد يكون من بين الملاذات لهم بما له من تأثير على قرارات دول عظمى ومؤسسات مالية واقتصادية مؤثرة في اقتصاد بلدانهم واستقرارهم في مناصبهم، ولقدرته على اختراق الدول.
شخصيا لا أستبعد ما ذكره رئيس الطائفة اليهودية الليبية من اتصال معمر القذافي به أيام الثورة الليبية ليقنع الكيان الصهيوني بمساعدته، هذا بعد 41 سنة من رفع الشعارات المعادية، فكثير من أصحاب الأفكار المتشددة يكونون شديدي الجبن والانتهازية في داخلهم، جبن يظهر بعد تظاهر بالقوة، يوم يخشون فقدان المنصب والمحاسبة ويوم يتخلى عنهم جيشهم وأمنهم الذين يختبئون وراءهما.
أرجو أن يعرف التونسيون يوما ما حقيقة تاريخ وحاضر علاقة بلادهم بالكيان الصهيوني سواء على المستوى الرسمي أو على مستوى أشخاص في علاقة بهذا الكيان، سواء مباشرة أو عن طريق دول أخرى عربية كانت أو غربية، وأن تكتمل المعطيات المنقوصة جدا المذكورة هنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى