ليبيا والصراع الإقليمي

كتب مصطفى الفقي:

ظلَّت ليبيا (مملكة وجمهوريَّة) رقماً صعباً في المصفوفة العربية، ففي ظل حكم آل “السنوسي” كانت ليبيا بمثابة اللغز الغامض، فالسنوسية طريقة دينية شاركت في حرب الاستقلال ضد الطليان والبريطانيين أيضاً، لكنها ظلّت تتأرجح بين الاقتراب من مجموعة الدول التي تسير في فلك الناصرية ومجموعة الدول التقليدية التي كانت تعاديه وترفض سياساته.

وظل الأمر كذلك حتى قيام ثورة الفاتح في سبتمبر (أيلول) عام 1970، إذ فرض نظام القذافي اسم ليبيا على الساحة الدولية نتيجة سياساته الصاخبة وأفكاره الغريبة أحياناً والمستحيلة أحياناً أخرى، فضلاً عن حجم الشغب الذي مارسه نظامه في العالمين العربي والأفريقي، بل وطال في الوقت ذاته بعض الدول الأوروبية الذي بلغ قمة مأساته في حادث (لوكربي) الشهير الذي كان بمثابة الفصل الأخير في تحمل تصرفاته ومواقفه وسياساته، وهو الذي بشَّر بالنهر العظيم، وبدد أموال ليبيا فيما لا نعرف.

ولقد تصوَّر “القذافي” نفسه وريثاً لعبد الناصر وأميناً على القومية العربية، إذ كان يردد هذه المقولة، ويؤكد أنه سمعها من “عبد الناصر” مباشرة اعتزازاً به وبثورته وتقديراً للمساندة التي أبدتها ليبيا تجاه مصر بعد الثورة على نحو أعطى دفعةً معنويةً عالية لعبد الناصر، وجعله يشعر وكأنَّ الله يعوَّضه عن نكسة عام 1967 وانفصال عام 1961، ومن حسن الحظ أن القذافي لم يتعامل مع عبد الناصر طويلاً فقد رحل الزعيم قبل أقل من عام على اندلاع ثورة القذافي، وظل الأمر كذلك إلى أن بدأت المواجهة الحادة بين القذافي ومعظم الحكام العرب، وفي مقدمتهم الرئيس الراحل “السادات” الذي فرض عليه القذافي حصاراً إعلامياً زائفاً، واصطدم به صداماً مروعاً، حتى إن السادات كان يلقبه بعبارة (مجنون ليبيا)، وقد استمر حكم معمر القذافي لما يزيد على أربعين عاماً جعل ليبيا رهينة في قبضة يديه وغيب بشكل واضح وجود الشعب الليبي صاحب الأرض والسيادة وأموال النفط، وكان قادراً على سحق محاولات التمرد عليه واصطياد خصومه في عواصم العالم بما في ذلك بعض المقربين منه مثلما تشير القصة الشهيرة لقتل “عمر المحيشي” على سلم الطائرة، وهو في طريقه من المغرب إلى الأراضي المقدسة نتيجة مؤامرة دبرتها الأجهزة الأمنية، وأنزلت طائرته على الأرض الليبية ليلقى حتفه جزاء خروجه عن الصف وتمرده على القذافي رفيق النضال وشريك الثورة.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن أموال القذافي تدفقت على جماعات تؤمن بالعنف واحترفت الإرهاب أيضاً، فتآمر على قتل خادم الحرمين الشريفين ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز نتيجة صدام بينهما في أحد مؤتمرات القمة العربية وانتابته حمى التوريث، فسمح لابنه سيف الإسلام بأن يتقدم الصفوف، وأن يبدو للجميع وريثاً شرعياً لأبيه عند اللزوم، وقد لاحظنا أن كل الحكام الجمهوريين الذين بشروا -بشكل مباشر أو غير مباشر- بمسألة التوريث فقدوا جميعاً مواقعهم، لأن الشعوب ترفض الوصاية عليها، فإما ملكية واضحة، وإما جمهورية دستورية، أما اللعب على الحبلين وقطف المزايا من النظامين فأمر أدى في النهاية إلى أبلغ الضرر بالنظم الجمهورية التي انتابتها حمى التوريث، وتأثرت في أفكارها بإمكانية أن يخلف الابن أباه، وباستثناء التجربة السورية فإن الأمر لم ينجح في غيرها.

والمعروف أن الوضع الليبي يعتمد على القبيلة ودورها في تكريس الولاءات الجهوية للحاكم، ولقد نجح القذافي في احتواء القوى الداخلية بطشاً أو سياسة، ثم فتح جبهة أفريقية واسعة كرَّس لها جزءاً كبيراً من أمواله، فأصبح اسمه في كل عاصمة أفريقية محل اهتمام وإثارة، وبلغت سطوته أن أصبح منافساً قوياً لأدوار قديمة في القارة من الدور المصري أو الجزائري أو المغربي أو الجنوب أفريقي، ووجد في النقلة النوعية من منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي ضالته، لكي يعيد الأمور وفقاً لاهتماماته ورغباته، كما حارب في “تشاد”، وتدخل في السودان، ودسَّ أنفه في غرب أفريقيا وشرقها أيضاً.

 

الزعامات والشعوب

وعندما أطلَّ الربيع العربي بكل ما يحمله من خير وشر ظنَّ القذافي أنه بعيد المنال، وأن من الصعب إسقاط نظامه، وصاح عبارته الشهيرة في الثوار قائلاً: (من أنتم؟)، بل انتقد سقوط الرئيس المصري “مبارك”، وخاطب الشعب المصري قائلاً: (لقد كان يحاول أن يأتيكم بكل ما يستطيع وكأنه يتسوَّل عليكم فما بالكم تنقلبون على رجل كهذا الآن؟)، وتفتحت شهية القوى الأوروبية تجاه ليبيا سواء “ساركوزي” رئيس فرنسا الذي نال من أموال القذافي الكثير في حملته الانتخابية، أو زعماء إيطاليا الذين أغدق على بعضهم في مناسبات كثيرة.

لكن الشعب إذا أراد يوماً الحياة فلا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر، تلك هي مأثورة جاره التونسي الشاعر الراحل أبو القاسم الشابي، وقد انتهى القذافي نهاية مأساوية، وأنا ممن يظنون أن تعليمات أوروبية هي التي طالبت ممن أسروه بقتله فوراً حتى لا يفتح ملفات تسيء إليهم، بل وإلى “ساركوزي” تحديداً، وكانت التركة ثقيلة، فالدولة الليبية منقسمة على نفسها بين شرق وغرب، فضلاً عن الولاءات المنتشرة في جهات مختلفة، كما أن ذلك البلد المضطرب أصبح مركز جاذبية شديدة لقوى التمرد والإرهاب في المنطقة، فسعت إليه العناصر المختلفة من تنظيم “داعش” وغيره من الجماعات الإرهابية، فضلاً عن أن جماعة الإخوان المسلمين التي اندحرت في مصر وجدت ضالتها في الأرض الليبية المجاورة لمصر، التي تستطيع منها أن تنطلق بعمليات إرهابية في مواجهة النظام المصري والشعب الذي تربطهم بها حدود طويلة تصل إلى آلاف الكيلومترات، ولنا هنا عدة ملاحظات:

أولاً: إن الشعوب تحتاج إلى إعداد لفهم عملية الإصلاح وأسلوب الانتقال السلمي من مرحلة إلى أخرى، وإلا فإنها تقع أسيرة الفوضى، وتصبح لقمةً سائغةً للتدخل الأجنبي، كذلك فإن الثورات التي لا تملك برنامجاً محدداً تبدو أحياناً وكأنها تائهة في الصحراء لا تعرف ما يمكن أن تفعله، لأنها لم تمتلك تنظيماً سياسياً متمرساً، ولا نظرية تحوّل اجتماعي أو إصلاح اقتصادي يسمح لها بالانتقال نقلة نوعية إلى مرحلة جديدة.

ثانياً: إن حكم الفرد إذا طال وامتد عشرات السنين مثلما حدث مع القذافي وغيره فإن ردود فعل الجماهير لا تكون منصفة على الإطلاق، بل ترى أن كل ما جرى كان سواداً واستبداداً وديكتاتورية، وقد انطبق هذا الأمر على الوضع في ليبيا بعد القذافي، بل وفي دول أخرى مجاورة.

ثالثاً: إن دول الجوار، خصوصاً مصر والجزائر وتونس، لم تصل إلى اتفاق كامل مع الدول الأوروبية المعنية في حوض المتوسط، خصوصاً فرنس وإيطاليا، فضلاً عن الانقسامات الداخلية الهائلة، ووجود أكثر من حكومة أحياناً، وأكثر من برلمان أحياناً أخرى، ولقد حاول المشير “حفتر” أن يفعل شيئاً، ولو كان ذلك بدعم من ترمب وحده، ولو دون إدارته بالكامل، كما حاولت مصر أن تدعم حفتر، وأن تراهن عليه لكن ما زال الرهان مفتوحاً، ومستقبل ليبيا القلقة غامض.

إن ثورات الربيع العربي كتاب مفتوح ما زال يحتاج إلى دراسات مستفيضة وتفسيرات كثيرة حتى تستقيم الأمور وتنجلي الحقائق.

المصدر: الأندبندت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى