عبد الحميد الجلاصي يكتب: حتى لا تختلط الأوراق مجددا
يوم الغد ،يوم الثلاثين من جويلية قد يكون منعرجا في البلاد بمعنى الدلالة الاستراتيجية و بمعنى نوعية المعارك اللاحقة و بمعنى نوعية الفرز الوطني .
لن أتوقف عند الحق الدستوري و التبرير السياسي بل و حتى الاخلاقي لهذا الموقف او ذاك .أسلم بالحق الدستوري وأتفهم التبرير السياسي التكتيكي و أتغاضى عن الاعتبار الثالث .
سأنظر للموضوع من زاوية اخرى خلاصات التاريخ و استحقاقات المستقبل ضمن المسارات الكبرى و الرؤية الاستراتيجية .
حصان طروادة :
استحضر هذه الايام محطتين تاريخيتين أثرتا بعمق في مسيرة البلاد .
لقد مثلت انتخابات 89منعرجا في التاريخ السياسي للبلاد وسجلت حركة النهضة في تقييماتها انها أخطأت في تقدير الموقف ومدى هشاشة الاوضاع و استعدادات المعارضة و بالمقابل لقد اخطا جزء من المعارضة في قراءة اللحظة و في التموقع فقاد حملة تجييش وتحريض في وسائل الاعلام و عبر العرائض (عريضة ال150مثالا ) وانحاز بعضها عمليا و بعضها عمليا للسلطة وفقا لصفقة تفضي الى ديموقراطية دون نهضة .اخذ بن علي كل شيء و لم يعط شيئا و خسرت البلاد عشرين سنة و خسرت ثقة و مناخات لم ترمم بعد .
اخطاء التقدير و التموقع سنوات 2012و 2013 هي التي حددت سقف الممكن الثوري لاحقا .
ليس الاعتراض على اتاحة الفرصة للمواطنين التونسيين في ممارسة حقوقهم السياسية ،اذ ان ميزة الثورة انها اكثر سماحة من الاستبداد و انها تتجاوز ثقافته وردود فعله ،و انما الملاحظة على تضييع فرصة هندسة سياسية كانت ممكنة تغلب نفس التغيير على نفس المحافظة او العودة للوراء .
مرة اخرى نفس الاخطاء و نفس ردود الفعل .
هل يلدغ التونسيون من نفس الجحر مرة اخرى ؟
الحسابات الخاطئة يمكن ان تقود الى مشهد سياسي يتصور البعض انه سيكون جديدا .و لن يكون كذلك .ما سيكون جديدا هو المناخ الجديد الذي سيزداد تعقدا و سنجد برلمانا يفقد ما بقي له من دور و حكومة الرئيس بالفعل هذه المرة و امكانية التستر وراء رئاسة لتقويتها مع تحريف للدستور و لكن ،و هذا ما يجب الانتباه له ،في سياقات مختلفة جوهريا عن سياقات التسعينات .
ولا اخفي عدم ارتياحي القديم للمشاريع الغامضة و للعقليات المغامرة التي لن يكتب لها الفلاح و لكنها تضيع وقت و امكانيات التونسيين ،ولا ارتاح للقطارات التي تخفي قطارات وراءها (un train peut en cacher un autre ).
في المصالحة الوطنية و الوحدة الوطنية .
ما اشرت اليه دروس من التاريخ لقوم يتفكرون .
اما بالنسبة للمستقبل فانه يجدر الانتباه ان حركة النهضة مثلت تاريخيا تعبيرة سياسية عن حالة اجتماعية شديدة التنوع و التركيب و التعقيد صاغتها الثقافة و التجارب و الملاحم المشتركة و الاحساس بالاستهداف من الدولة و من جزء من النخب المتعصبة او المتخوفة من مشاريع هذه الحالة الاجتماعية .
الثورة كانت فرصة لتطبيع هذه الحالة مع الدولة على مقتضى ازالة التوجس المتبادل و على مقتضى الاندماج وفقا لمعيار الكفاءة اي تجاوز حالة القضاء ،كما كانت الثورة فرصة للاستقلال التدريجي للحالة الاجتماعية عن التعبيرة السياسية .
يخطيء من يتصور ان ما يحدث الان ،و بالمناخات و السياقات و الخطاب التي يحدث بها ،سيؤثر على التعبيرة الحزبية،اذ لها من الخبرة في ادارة الاز مات ما يمكنها به ان تحولها الى فرصة فتسترد الانفاس من إنهاك تجربة الحكم و تولي اهمية اكبر لترتيب أوضاعها الداخلية .
و لكن يخطيء كثيرا في الحساب من لا ينتبه الى التاثير السلبي على الحالة الاجتماعية و على القاعدة المحافظة .
اود التنبيه من موقع وطني اننا لم نستكمل بعد ترتيب علاقتنا مع ماضينا الوطني لا عبر مسار العدالة الانتقالية المتعثر و المثير للجدل ولا عبر قانون المصالحة .
ما يحصل الان هو في العمق انتكاسة و عودة الى الوراء في سياق ما بعد ثورة .
وليس اقسى من الاحساس بالغبن ،انه يغذي اشد ردود الفعل راديكالية و يؤثر على بقية المسارات المطلوبة و أهمها مسار الانجاز الحكومي .
و يؤسفني ان الاحظ ان كثيرين خارج بلادنا اكثر حكمة ممن يفترض انهم حكماء فينا .
الاستاذ راشد الغنوشي لن يضيره كثيرا ان كان في رئاسة المجلس او في موقع اخر يخدم به بلاده كما فعل دوما .
و تنظيم حركة النهضة اعتاد التاقلم مع المستجدات .
لكن اثناء المعارك بين الزعامات و الاحزاب انتبهوا لتماسك مجتمعنا ووحدته التي تبقى هي المشروع الاهم و الأبقى .