شرح الأربعين النووية / الحديث الثاني «الإيمان والإسلام والإحسان»
عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا احد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد: اخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فاخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال : صدقت قال فاخبرني عن الإحسان قال إن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فانه يراك قال فاخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل قال فاخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال يا عمر أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله اعلم قال: فانه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
رواه مسلم
هذا الحديث الثاني من أحاديث الأربعين النووية يرويه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وهو حديث عظيم الشأن، انه حديث جامع وفريد من نوعه من عدة نواح سواء كان ذلك في شكله أو في مضمونه أو ما أشار إليه وأوحى به وقد سمي هذا الحديث بحديث عمر وحديث جبريل عليه السلام، وحديث ذي الثلاث إشارة إلى أقسامه “الإسلام والإيمان والإحسان” وهي مع بعضها يتكون منها دين الإسلام. وقد خصه بعض العلماء بالتأليف حيث توسعوا في تبيين وتفصيل القول فيما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما القي عليه من أسئلة.
وطريقة التعليم من خلال السؤال والجواب من أحسن الطرق في التلقين غير المباشر وقد أخذت بها بعض النظريات البيداغوجية واعتبرتها من أنجع طرق التعليم.
يصف لنا راوي الحديث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان عليه الصلاة والسلام يجلس لأصحابه فيعلمهم (إنما بعثت معلما) ويرشدهم ويوجههم، ومجالسه عليه الصلاة والسلام مجالس علم ودين وتربية وأخلاق لها جلال وجمال لا تنتهك فيها الحرمات ولا ترفع فيها الأصوات ولا يكون فيها إلا ما يرضي الله ويقرب إليه وكذلك ينبغي أن تكون مجالس المسلمين الذين يبتغون مرضاة الله.
“بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا احد” فالقادم على هيئة حسنة، فمظهره محترم وجميل “شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر” وقد وردت في استحباب الثوب الأبيض والاعتناء بالشعر ومشطه أحاديث وأثار تدعو المسلم إلى أن يكون جميلا فالله جميل يحب الجمال وهو سبحانه وتعالى يحب النظافة والطهارة ويحب أن يرى اثر نعمته على عبده يقول جل من قائل (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ويقول (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) وليس من الإسلام في شيء التضييق على النفس والتشديد عليها وحرمانها، وليس ذلك من الزهد الحقيقي في الدنيا، إذا الزهد المطلوب من المسلم يتمثل في أن لا تكون الدنيا اكبر همه ومبلغ علمه فتسد عليه كل منافذ الوعي فيتهالك عليها ويتكبر بها على الناس ويتفاخر عليهم ويحتقرهم. أما اتخاذ الجيد والجديد والأنيق والنظيف من الملبس فهو مطلوب ومرغب فيه إذ (لا رهبانية في الإسلام) و(اليد العليا خير من اليد السفلى والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف).
فمظهر هذا القادم على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر طيب وجميل وفيه دعوة لمن هم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كي ينسجوا على منواله ويعتنوا بأنفسهم خصوصا عندما يرتادون المجالس العلمية.
والملفت للانتباه في هذا القادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو انه لا يرى عليه اثر السفر بمعنى ليس آت من خارج المدينة ولكنه أيضا لا يعرفه من الحاضرين احد فهو ليس من أهل المدينة. من يا ترى يكون هذا المتقدم رويدا رويدا إلى أن اقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث وضع ركبتيه على ركبتيه وجعل يديه على فخذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقابله بوجهه؟ جلس إليه جلوس المتعلم المتأدب، وكذلك ينبغي أن يكون جلوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم بين يديه في أدب واحترام وإجلال وتقدير وعليهم أن يتركوا جانبا ما كانوا عليه من همجية وعتو وصلف وكبرياء وكل ذلك من أخلاق الجاهلية التي استبدلها الله بالأخلاق الكريم العظيمة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج الأمثل لها حتى استحق مدح ربه له (وانك لعلى خلق عظيم) انه بحق كما وصفته زوجته عائشة رضي الله عنها (كان خلقه القرآن) وهو عليه الصلاة والسلام القدوة والأسوة لمن أراد الإحراز على مرضاة الله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (ولكم في رسول الله أسوة حسنة). وسيأتي في آخر الحديث التعريف بهذا القادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم (انه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) وقد كان جبريل عليه السلام يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئة إنسان (دحية الكلبي).
قال: يا محمد اخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه) لقد سمع الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتكون منه الإسلام أو ما هو الإسلام وبلغنا عن طريق هذا السائل معاشر المسلمين الجواب الشافي عما يمكن أن يخالج أنفسنا وكان المجيب عليه من لا ينطق عن الهوى (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما)، (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
فالإسلام هو أن ينطق المسلم بالشهادتين (اشهد أن لا اله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله) تلك هي عقيدة التوحيد التي لا يقبل الله من عبده من دونها صرفا ولا عدلا ففي الإقرار بالشهادتين والنطق بهما وإعلانهما دخول في دائرة الإسلام. الشهادتان هما شعار الإسلام، من نطق بهما دخل في عداد المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ولا يحتاج هذا الإعلان إلى كهنوت ولا إلى طقوس، كلمتان بسيطتان عظيمتان عند الله، بإعلانهما والنطق بهما تتغير وتتبدل مجريات حياة المسلم، إذ بهما يخرج المسلم من الكفر إلى الإيمان ومن الظلام إلى النور ومن الضيق إلى السعة. ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية أركان الإسلام “إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا” إنها أعمدة الإسلام التي لا يجوز للمسلم أن يترك القيام بواحدة منها إلا عند العجز وعدم الاستطاعة، إنها أركان متلازمة هي عرى الإسلام وقواعده، فهي فرائض إذا ما أداها المسلم بصدق وإخلاص كانت كفيلة بأن تتحقق له مرضاة الله سبحانه وتعالى فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قرر أن يكتفي بآداء هذه الأركان وقال “والله لا أزيد عليهن” قال عليه الصلاة والسلام “افلح صاحبكم إن صدق”. وهذه الأركان لا يمكن أن يعوضها أي عمل من أعمال البر والخير “وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه”. وقد حارب سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من امتنعوا عن أداء الزكاة وقال “والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله وفي رواية عقالا كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتهم عليه والله لا افرق بين أمرين جمعهما الله: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة” وبذلك حفظ سيدنا أبو بكر للإسلام وحدته فقد كان في إقامة الدين ثاني اثنين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان ثاني اثنين في خلافته في أمته كما كان ثاني اثنين في الدخول في الإسلام فهو أول من اسلم من الرجال وكان ثاني اثنين في الهجرة “ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا” فقد وقف يقول عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم “من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”.
والصلاة هي أصل الدين “بين العبد والكفر ترك الصلاة” وتاركها إنكارا لوجوبها ولاعتبارها من الدين لا اختلاف بين العلماء بأنه خارج من دين الإسلام، والصلاة هي أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة فإذا صلحت صلح سائر عمله وإذا فسدت فسد سائر عمله. والصلاة لا تسقط عن المسلم إلا في حالة فقدان العقل والعجز الكامل وفيما سوى ذلك فهي واجبة في الحرب وفي السفر وفي المرض تخفف وتقصر ولكنها لا تسقط في حين أن بقية الأركان كالصيام يقضى أو يسقط (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وكذلك الزكاة فإنها لا تجب إلا ببلوغ المال مقدار النصاب وان يحول على هذا المال الحول والمانع لها الذي لا يخرجها عند توفر شروطها متعرض لغضب الله وشديد عقابه “ما بقيت الزكاة في مال احد إلا أتلفته” إن الزكاة حق معلوم للسائل والمحروم (الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) وهي تزكية ونماء وبركة وهي تجسيم لمعاني الأخوة والتراحم والتضامن التي ينبغي أن يكون عليها المسلمون، وصيام رمضان واجب على الأصحاء المعافين وهو عبادة من أعظم العبادات لما فيه من تزكية وتطهير ولما فيه من تشبه بالملائكة وما فيه من مجاهدة وتحكم في النفس وأهوائها إذ فيه شعور بآلام المحتاجين والجياع وهو مدرسة للإخلاص وتمحيص العمل لله تبارك وتعالى فالله سبحانه وتعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم ولذلك استحق الصيام إن ينسبه الله تبارك وتعالى إليه رغم انه عمل العبد (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا اجزي به) لا يعلم مقدار الأجر عليه إلا الله وكل أعمال ابن آدم يؤخذ منها إلا الصوم الذي لا رفث فيه ولا فسوق من قول أو فعل مما يغضب الله فانه يبقى كاملا.
وصيام شهر رمضان هو احد أركان الإسلام التي لا تسقط إلا بعجز أو مرض مزمن وهي أعذار راعاها الله لعباده إذ (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
والحج عند توفر الاستطاعة عليه وهي استطاعة بدنية ومالية واجب (ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا) والقائم به على أحسن الوجوه (يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) و(الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة).
عند سماع الصحابة لجواب الرسول صلى الله عليه وسلم وتصديق السائل الغريب تعجبوا لان الشأن في السائل أن يتلقى الجواب ولا يملك أن يصدقه أو يكذبه اللهم إلا إذا كان يعرف مسبقا الجواب وهذه هي حال هذا السائل فهو يسال ليتعلم عن طريقه السامعون وهذا ما وقع فعلا.
ثم قال (فاخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت).
بعد الإسلام جاء السؤال عن الإيمان وهناك فرق بينهما رغم أنهما يكونان مع بعضهما ومع الإحسان دين الإسلام فالإسلام يتعلق بالظواهر فحكمنا على شخص هل هو مسلم أم غير مسلم إنما يكون بما ينطقه من الشهادتين وبما يؤديه من أركان الإسلام الأخرى “الصلاة والصيام والزكاة والحج”. ولكن الله الذي لا تخفى عليه خافية لا ينظر إلى الظواهر وإنما يعلم الخفايا والبواطن، والإيمان غير الإسلام فالله وحده يعلم الإيمان ولذلك قال في حق الأعراب (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم) فالإيمان يقوى ويضعف، يقوى بالطاعات ويضعف بالمعاصي وفي الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) (ألا وان الإيمان يبلى كما يبلى الثوب فجددوا إيمانكم بملاقاة بعضكم البعض).
يشتمل الإيمان على الإيمان بالله ربا واحدا لا شريك له إيمانا لا يتزعزع ولا يخالطه الشك والشرك (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) والإيمان عمل قلبي (الإيمان هو ما وقر في القلب وصدّقه العمل) من قول وفعل لا بدّ من التسليم للرب جل وعلا بكل صفات الكمال فكل شيء في الإنسان وفي ما يحيط به في هذا الكون يشهد على وحدانية الله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ولا بدّ من الإيمان بأن لله جل وعلا مخلوقات من نور لا يعصون الله ما أمرهم هم الملائكة منهم جبريل ومنهم عزرائيل ومنهم إسرافيل ومنهم الملكان اللذان على اليمين والشمال ومنهم الملكان اللذان سيسألاننا عندما نوضع في قبورنا ومنهم حملة العرش ومنهم خزنة الجنة وخزنة جهنم ومنهم عدد لا يحصيه إلا الله يحيطون بنا ويغشوننا ويملؤون السماوات والأراضين، وكذلك لا بدّ من الإيمان بمن أرسلهم الله من الرسل والأنبياء منهم من ذكرهم الله في القرآن ومنهم من لم يذكرهم، لا بدّ من الإيمان بكل من ذكروا ولا تجوز المفاضلة بينهم (لا نفرق بين احد من رسله) منهم أولو العزم: “نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد” عليهم الصلاة والسلام أجمعين ختم الله أنبياءه ورسله بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام (ما كان محمد أبا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وينبغي أن يسلم لهؤلاء الرسل والأنبياء بما خصهم به الله سبحانه وتعالى من صفات الكمال الإنساني فعصمهم من الوقوع في المعاصي والذنوب، اصطفاهم الله واجتباهم من بين عباده (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) (الله أعلم حيث يجعل رسالته).
ولا بدّ من الإيمان بما أنزله الله من صحف وكتب على أنبيائه ورسله فقد انزل الله الصحف والزبور والتوراة والإنجيل والقرآن وهي كلها كلام الله ووحيه إلا أن ما بقي منها محفوظا من كل زيادة ونقصان إنما هو القرآن الكريم الذي يقول الله في حقه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فالقرآن هو المعجزة الخالدة التي خص الله بها سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام تحدّى بها الجن والإنس فتبيّن عجزهم عن الإتيان بسورة أو بعشر آيات مثله.
ولا بد من الإيمان باليوم الآخر فإن المصير إلى الله حتمي والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى لا مفر منه فهذه الدنيا فانية وهي سبيل إلى الدار الآخرة التي تبدأ بيوم البعث ذلك اليوم الذي يشيب لهوله الولدان وهو يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولا بد من الإيمان بالقدر الذي هو علم الله بما كان وبما سيكون فقد خلق الله عباده وقدر أرزاقهم وأعمارهم وقدر سبحانه وتعالى الشقي والسعيد وغيّب كل ذلك عن عباده ولا ينبغي أن يكون ذلك سببا للتحلل من الواجبات والتعلل بالقدر، فالشيطان يحضر إذا ذكر القدر فينبغي على المؤمن أن يكون إيمانه بالقدر دافعا له للتحرر من مظاهر الخوف والانزعاج فالإيمان بالقدر يجعل المؤمن في راحة وطمأنينة وتقبل بنفس راضية لكل ما كتبه الله معتقدا أن الخير كل الخير فيما اختاره الله وان الإنسان لو اطلع على الغيب لاختار الواقع (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون) ورضي الله عن عمر بن الخطاب الذي كان يقول (أغالب الأقدار بالأقدار وأفر من قدر الله إلى قدر الله) وكان يدعو: (اللهم إن كنت كتبتني في سجل السعداء فثبتني وان كتبتني في سجل الأشقياء فامحني واكتبني في سجل السعداء فانك قلت وقولك الحق يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمُّ الكتاب).
ثم قال فاخبرني عن الإحسان قال (أن تعبد تالله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك) يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم متدرجا في بيان مكونات دين الإسلام فيقول فالإحسان هو عبادة الحضور الدائم مع الله والاستحضار لجلاله وقدرته وإحاطته بما يفعله عبده المؤمن بحيث عندما يتقرب إليه عبده المؤمن بطاعة من صلاة أو زكاة أو صيام أو حج ينبغي عليه أن يتحرى الإخلاص الكامل والصدق الحقيقي فالله تبارك وتعالى لا يقبل إلا ما هو طيب ولا يقبل إلا ما ابتغى به عبده وجهه الكريم. وليس من السهل ولا من اليسير أن يصل المسلم إلى هذه الدرجة “أن تعبد الله كأنك تراه” بل لابدّ لبلوغ هذه الغاية من جهد كبير يعني أن مقام الخشوع والحضور مع الله لا يتحقق إلا بعد مجاهدة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) والمؤمن عندما يصل إلى هذه الدرجة تصبح لإيمانه حلاوة. (وجعلت قرة عيني في الصلاة) (أرحنا بها يا بلال).
ثم قال “فأخبرني عن الساعة قال: ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل، قال: فاخبرني عن أماراتها. قال : أن تلد الأمة ربتها وان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان” لقد سأل السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موعد قيام الساعة أي متى تقوم الساعة فأجاب “ما المسؤول عنها بأعلم من السائل” فالساعة علمها عند الله أخفاها عن كل عباده وغيّبها (عنده علم الساعة) لا يجليها لوقتها إلا هو وفي ذلك حكمة تجعل الإنسان المؤمن يعمل إلى آخر لحظة في حياته لدينه ولدنياه “اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا” إن الساعة تأتي بغتة ولكن السائل أعاد السؤال مرة أخرى وكان السؤال في المرة الثانية عن أمارات الساعة وعلاماتها وللساعة أمارات كبرى لم يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهي أمارات عندما تظهر لا تنفع بعدها التوبة، ذكرت بعض هذه العلامات في القرآن “كخروج الدابة” وذكر البعض الآخر في الحديث كخروج المسيح الدجال وخروج الشمس من الغرب وخروج يأجوج ومأجوج وقد ذكر هؤلاء في القرآن الكريم في سورة الكهف.
والأمارات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي بعض من الأمارات الصغرى (أن تلد الأمة ربتها وان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) وهاتان العلامتان من العلامات الصغرى التي تحضر وتغيب وهما علامتان تدلان على انقلاب الموازين قبل قيام الساعة من ذلك أن تصبح الأمهات هن اللاتي تعملن على إرضاء بناتهن وذلك بطاعتهن حتى في ما يغضب الله وان يكثر الناس الذين يجمعون الأموال من الحلال والحرام فيتفاخرون على بعضهم بالتعالي في البنيان الأمر الذي لا يفعله من يراقبون الله فيما يجمعون من أموال فما بين أيديهم قليل وما تغلغل في قلوبهم من إيمان يمنعهم من أن يجمعوا الأموال من الحرام فضلا عن أنهم لا يمكن أن يكونوا من أهل التفاخر والتظاهر.
وليس المقصود بالتعالي في البنيان بناء العمارات وانتشار البنيان العمودي فالبناء العمودي إذا كانت مما ستحفظ به الأراضي الصالحة للزراعة من أن تستنزف مقصد نبيل لا يمكن أن يعترض عليه الإسلام الدين الذي اِنبنت كل أحكامه على درء المفسدة وجلب المصلحة وهذا الفهم لعلامتي الساعة اللتين ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تلقّيتهما عن الشيخ الوالد الحبيب المستاوي رحمه الله ولا اعلم أن غيره سبقه إلى هذا الفهم المستنير.
قال عمر (ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
هذه هي خاتمة الحديث سؤال من رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيل به عجب عمر وكل من معه من الحاضرين وأراد أن يعرفهم بهذا القادم عليهم “شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر” أجاب عمر بما يقتضيه الأدب الرفيع قال: الله ورسوله اعلم” هنا جاء جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم “فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم” انه التعليم عن طريق السؤال، السؤال عما يخامر الأذهان، السؤال المستند إلى منهجية ورؤية واضحة، السؤال في أدب واحترام وتواضع، السؤال عن المعلوم من الدين بالضرورة، كل ذلك حصل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حصل لهم العلم وتعلموا من الأدب والخلق ارفعه وأجمله. ما أعظمه من حديث شامل آثرنا أن نبين كل ما فيه من المعاني مما فتح الله به علينا، انه بحق الحديث الجامع للدين كله، انه حديث ذي الثلاث، حديث الإسلام والإيمان والإحسان راويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخرجه في صحيحه الإمام مسلم.