شرح الأربعين النووية / الحديث الأول : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”
رواه الشيخان البخاري ومسلم
راوي هذا الحديث الجليل هو سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من هو في الجاهلية والإسلام قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم “اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام” فهدى الله إلى الإسلام عمر بن الخطاب وكان يلقب بالفاروق لأن إسلامه كان فاروقا بين عهدين: عهد كان يختفي فيه المسلمون بإسلامهم لما تسلطه قريش على المؤمنين بالدين الجديد (الإسلام) والمتبعين لسيد المرسلين وخاتمهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من الأذى الشديد وعهد جهر فيه المسلمون بإسلامهم وأعلنوه حيث قوى الله جانبهم وعززهم بعمر بن الخطاب الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (عمر مع الحق يميل حيث مال) وقال (لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر) وقد نزل القرآن الكريم على لسانه يقر اختياراته واجتهاداته عديد المرات.
سار سيدنا عمر بن الخطاب في الأمة سيرة الصلاح والفلاح والعدل والإنصاف كان مثالا للوقوف عند حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم كان رضي الله عنه شديدا مع نفسه يحاسبها الحساب العسير يعمل بمقتضى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكيّس من دان نفسه) لطالما انحنى رضي الله عنه على تبنة وقال (ليت عمر لم تلده أمه ليته كان تبنة) وقال (لو نادى مناد كل الناس يدخلون الجنة إلا رجلا لقلت ويحك انك أنت يا ابن الخطاب) وقال: (لو أن بغلة عثرت في اليمن لسئلت عنها لماذا لم أسوِّ لها الطريق). كم مرة خرج في ظلام الليل الدامس حاملا على كتفه الزاد والمؤونة يتفقد أحوال الضعاف من رعيته ويتخذ على اثر الاطلاع على الأوضاع الصعبة: الفقر والحاجة والمرض والإعاقة والعجز القرارات الجريئة فيأمر لكل مولود يولد في الإسلام براتب من بيت مال المسلمين وذلك عندما رأى أمّا تستعجل بفطام ابنها قبل الأوان لتستفيد مما هو مقرر من بيت مال المسلمين لكل مفطوم فيجعل رضي الله عنه استحقاق الراتب بمجرد الميلاد ويقول: (ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين)، ويمر أمام ذمي وجده يتسوّل فيسأله عن سبب مسألته فيقول الذمي (انه الهرم والجزية) فيقول عمر بن الخطاب: (ظلمناك أخذنا منك الجزية صغيرا وتركناك كبيرا) ويأمر له براتب من بيت مال المسلمين ويشتكي له قبطي من ظلم تسلط عليه من ابن عمرو بن العاص فيناول سيدنا عمر القبطي الدرة ويقول له (اضرب ابن الأكرمين) ويصرخ صرخته المدوية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا). ويهم بالصلاة في الكنيسة عندما شهد فتح بيت المقدس ثم يتراجع عن ذلك مخافة أن يتخذ المسلمون صنيعه حجة فيفتكوا للنصارى كنائسهم وليس ذلك من هدي الإسلام ولا هو ما تقر عليه تعاليمه السمحة وأعطى لأهل بيت المقدس عهدا لا يزال محفوظا إلى اليوم.
ويهم رضي الله عنه بتحديد المهور لما رأى مغالاة الآباء فيها فتعارضه عجوز وتستدل له بقول الله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا) فيتراجع عما كان عازما عليه ويقول على مرأى ومسمع من الحاضرين (أصابت عجوز واخطأ عمر كل الناس اعلم منك يا عمر) ولو مضينا نستعرض جوانب من سيرة هذا الرجل العظيم لاستغرق منا ذلك الحيز الواسع ولكنها مجرد إشارات عاجلة تبين عظمة عمر ابن الخطاب وما أسداه للأمة وللدين مما سيجده بين يدي ربه فيجازيه عليه الجزاء الأوفى.
وهذا الحديث الذي افتتح به الإمام النووي الأربعين حديثا التي اختارها وانتقاها والتي يمثل كل واحد منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين الحنيف.
يتوجه هذا الحديث إلى داخل المسلم وباطنه، فالله تبارك وتعالى لا تخفى عليه خافية (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) يعلم دبيب النمل في الحجرة الصماء في الليلة الظلماء، لا ينظر إلى صور العباد ولا إلى وجوههم ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم. ولا يفوز في دين الإسلام ولا ينجو من أهوال يوم القيامة وعذاب جهنم إلا من أتى الله بقلب سليم لأجل ذلك فإن هدي الإسلام وكذلك هدي كل رسالات السماء توجهت جميعها إلى الأصل والجوهر ومنطلق كل خير أو شر لا قدر الله، فالنوايا هي الأساس وهي التي يحاسب على مقتضاها الله عباده وهذا ما تختص به الأديان السماوية على ما سواها من المناهج البشرية التي لا تستطيع أن تتجاوز الظواهر التي هي في كثير من الأحيان مخالفة لحقائق الأمور وبواطنها.
إن الإسلام يشن حربا ضارية لا هوادة فيها على النفاق وازدواج الشخصية، فذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة، إن المنافقين يراؤون الناس ويتظاهرون لهم وأمامهم بالصلاح والفلاح وهم في الحقيقة والواقع مفسدون ولكن الله كاشفهم لا محالة وفاضح أمرهم في الدنيا قبل الآخرة.
إن هذا الحديث (إنما الأعمال بالنيات) حديث عظيم الشأن وهو أساس الإيمان والإسلام، فالله جل وعلا لا يقبل الشريك-والشرك الخفي لا يقل في خطورته عن الشرك الظاهر وما أكثرها الأحاديث المحذرة للمسلم من أن يحبط عمله ويرد عليه. فالله تبارك وتعالى يقول في الحديث القدسي (أنا أغنى الشركاء اذهب إلى من أشركته بي فليجازك اليوم) وهل يستطيع أحد أن يجازي أحدا في ذلك اليوم الذي تشيب لهوله الولدان وتضع فيه كل ذات حمل حملها وترى فيه الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد؟ وفي الأثر (كل الناس هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على وجل) هل يقبل منهم ربهم أعمالهم التي قدموها أم يردها عليهم؟ وقد ورد في الحديث الشريف إن الله تبارك وتعالى يوقف بين يديه يوم القيامة عالما وشهيدا وصاحب مال ويسألهم عما فعلوا بما وهبهم من علم وشجاعة ومال فيقول: العالم علمت ويقول الشهيد جاهدت إلى أن استشهدت ويقول صاحب المال زكيت وتصدقت فيقول الله للعالم علمت ليقال فلان ما اعلمه وقد قيل ذلك ويقول للشهيد جاهدت واستشهدت ليقال فلان شجاع وقد قيل ذلك ويقول لصاحب المال أنفقت ليقال فلان ما أكرمه وقد قيل ذلك ثم يأمر الله بثلاثتهم فيلقون في نار جهنم لأنهم أشركوا في أعمالهم غير الله من الناس.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله (رجلٌ لا تدري شماله ما أنفقت يمينه ورجلٌ ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)، وقد مدح الله تبارك وتعالى من لا يراقب في عمله إلا وجه الله فقال (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمهم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) وقال تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين).
هذا الحديث (إنما الأعمال بالنيات) هو حديث تمحيص النوايا ليعلم كل واحد منا ما ينتظره من جزاء أو عقاب.
فالنوايا الطيبة الصادقة الخالصة لوجه الله يتحقق بها لصاحبها الأجر والثواب العظيم، إن النوايا الحسنة هي المطايا للأعمال الصالحة المتقبلة من الله جل وعلا والعبد المؤمن المخلص الصادق في نواياه سيجد في صحائفه يوم القيامة أعمالا جليلة خيرية لم يقم بها، وإنما هم بها مجرد الهم وعزم ونوى على إن يقوم بها ولكنه لسبب أو لآخر لم يستطع تجسيمها في حيز الواقع إما لقلة ذات اليد أو لضعف أو أن المنية عاجلته، هذا العزم الصادق وهذا الهم الخالص لوجه الله بفعل المعروف وبذل الخير وتفريج كرب مكروب مجرد هذه النية كاف لجعله يستحق الثواب على عمل لم يقم به.
ما أكرمه من رب يتحبب لعباده ويضاعف لهم الحسنات ويتقبل منهم مجرد النوايا الخالصة الصادقة التي لا تشوبها شائبة من رياء وتظاهر وحرص على ثناء الناس وشكرهم، يقول عليه الصلاة والسلام (من همّ بالحسنة ولم يفعلها كتبت له) همّ بفعلها بصدق وإخلاص.
جاء هذا الحديث “إنما الأعمال بالنيات” ليمثل ركيزة الإسلام الأساسية في تقييم الأعمال والتمييز بين المتقبل منها والمردود على صاحبه مهما كان ظاهره طيبا وخيرا حتى لو كان صلاة وزكاة وحجا وذكرا وتسبيحا وتلاوة القرآن.
ولذلك قال العلماء إن من الأسباب التي خص بها الله سبحانه وتعالى الصيام دون سائر أعمال عباده بالنسبة إليه وقال (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا اجزي به) قال العلماء لان الصيام هو العبادة الوحيدة الخالية من الرياء والتظاهر إذ لا يعلم الصائم من المفطر إلا الله الذي لا تخفى عليه خافية، إنها عبادة بين الله وعبده لا يعلمها منه إلا هو سبحانه وتعالى.
والأعمال كل الأعمال حسب نوايا أصحابها بها، ولا عمل إلا بنية، بل إن العمل الواحد بنية هو عبادة وقربة ومن دون نية هو عادة أو شأن لا ينتظر القائم به جزاء من عند الله. فلو قام الواحد منا بكل أفعال الوضوء أو أفعال الصلاة ولم ينو بقلبه ما يريد القيام به وتقديمه كعبادة وقربة فإنه لا ينتظر على ذلك العمل الثواب والجزاء من عند الله.
فالله تبارك وتعالى لا يظلم عباده (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) ولأجل ذلك ليس للعبد المؤمن فيما يقوم به من عمل إلا ما نواه ولا يعلم ما ننوي بأعمالنا إلا الله ثم أنفسنا، نحن نعلم ماذا نقصد من وراء ما نقدمه من عمل ولن تفيدنا شهادات الاستحسان التي يمدحنا بها المتملقون الذين قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقهم (أحثوا في وجوه المداحين التراب) لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نستفتي قلوبنا (استفت قلبك وان أفتوك وأفتوك) وأمرنا عليه الصلاة والسلام كلما وقع شكرنا بأن نقول (اللهم اغفر لي ما يعلمون واجعلني أحسن مما يقولون) إن الكيس العاقل الفطن هو من دان نفسه (قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها).
ويضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المثل بالهجرة وما أدراك ما الهجرة، فهي شرف عظيم ناله صفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركوا الأهل والمال والموطن وهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسل إلى المدينة مؤثرين رضوان الله وجزاءه الأوفى ومع ذلك فان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبه إلى انه يمكن إن يكون هناك من لم تكن هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هجرة إلى الله ورسوله والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ذلك أن الله تبارك وتعالى فتح على المسلمين مكة المكرمة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) فالهجرة بعدد فتح مكة المكرمة هي هجرة ما حرم الله مما يغضبه ومما حرمه على عباده ولذلك فان الهجرة بهذا المفهوم المعمق والموسع تصبح عملا مطلوبا ومن كل مسلم في أي مكان كان وفي أي زمان كان.
إن الله تبارك وتعالى اعد لمن هاجر بصدق وإخلاص وابتغاء لمرضاة الله الثواب والأجر الكبير هذا الثواب وذلك الأجر لا ينبغي أن ينتظرهما من كانت هجرته من اجل دنيا يصيبها ويحصل عليها أو امرأة يتزوجها فليس لهذا الصنف من الناس إلا ما نووه وقصدوه وما كان منطلقا لعملهم وذلك هو منتهى العدل الإلهي فلا نصيب في الثواب والأجر من عند الله في الدار الآخرة إلا لمن اخلص عمله لوجه الله ومحصه ومحضه وكان لنفسه الأمارة بالسوء بالمرصاد يوقفها عند حدودها.
إن الدنيا وان كانت مطية للآخرة وسبيلا إليها إلا أنها لا ينبغي أن تصبح اكبر همّ العبد ولا مبلغ علمه، كل ما يطلبه العبد المؤمن من الدنيا هو ما يكفيه ولا يطغيه وينسيه ذكر ربه وحتمية الرحيل عن هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية التي هي الحياة الحقيقية (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) إن المسلم يدعو ربه فيقول (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ولكنه يرضى بما قسم الله له منها ويعمل جاهدا كي لا يأخذ من الدنيا إلا ما هو حلال طيب، إن الله تبارك وتعالى يقول لعباده المؤمنين (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).
إن المسلم لا يتهالك ولا يريق ماء وجهه وكرامته طلبا للدنيا الفانية الغرارة، فهذه الدنيا لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء، والمؤمن ينبغي أن يتيقن أن الخير كل الخير فيما اختاره الله له وهو لو اطلع على الغيب لاختار الواقع والمؤمن يسلم بقوله جل من قائل (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) فالله تبارك وتعالى يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب لذلك نرى الكافرين بالله والمنكرين لنعمه يتمرغون في الدنيا ويعبون منها عبا ولا يعطي الدين إلا لمن يحب، فما على المؤمن إلا أن يختار أي السبيلين يسلك: سبيل مرضاة الله وابتغاء الأجر والثواب والجزاء العاجل والآجل منه سبحانه وتعالى وذلك لا يكون إلا بالإخلاص ثم الإخلاص والسبيل الثاني سبيل خلط الخبيث بالطيب وعند ذلك فلا ينتظر من يسلكون هذا السبيل إلا أن يكون جزاؤهم من صنف أعمالهم لذلك قال عليه الصلاة والسلام (فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
إن الحديث (إنما الأعمال بالنيات) نص حاكم على بقية النصوص والأعمال أي أن هذا الحديث هو حديث التمحيص والتأسيس على قاعدة صلبة وأسس متينة، فلا عمل إلا بنية، و(نية المرء خير من عمله، ويبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله)
ولذلك ورد في الأثر (أنت ونيتك) فالناس لا يستطيعون أن يحكموا على أعمال بعضهم إلا من خلال الظواهر (أمرنا أن نحكم بالظاهر) والذي يتولى السرائر ويعلمها ويجازي عليها إنما هو الله سبحانه وتعالى، ولذلك ورد في الحديث الشريف (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل) العمل الخالص لوجه الله الذي لا تشوبه شائبة.
نسال الله إن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فاللهم يا رب العالمين أهدنا الصراط المستقيم واجعلنا من عبادك العاملين المخلصين إلى أن نلقاك غير خزايا ولا مبدلين ولا مغيرين برحمتك يا ارحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين والحمد لله رب العالمين.