رسالة من أمير لواء محمد المؤدب الى رئيس الجمهورية
وجه أمير لواء متقاعد محمد المؤدب رسالة الى رئيس الجمهورية قيس سعيد ضمنها تصوراته ومقترحاته لمزيد اصلاح المؤسسة العسكرية جاء فيها:
السيد رئيس الجمهوريّة، القائد الأعلى للقوّات المسلّحة:
لقد آن الأوان لتهبّ رياح الإصلاح على قطاع الدّفاع !
بعد التحيّة اللائقة بالمقام،
شهدت تونس وكامل المنطقة العربيّة في العشريّة الأخيرة انتفاضات عنيفة صاحبها بروز تهديدات ومخاطر منها التقليديّة ومنها الحديثة، عصفت ببعض الأنظمة وكادت بالبعض الآخر، فاستفحل الإرهاب والجريمة المنظّمة بكلّ صيغها باستغلال الإمكانيّات الهائلة لتقنيّات الاتّصال الحديثة، وزاد من حدّة كلّ ذلك، التدخّلات الأجنبيّة المباشرة والمقنّعة أحيانا. ويعود ذلك لأسباب بعضها ذاتيّ لكلّ دولة والبعض الآخر كان نتيجة تأثيرات وتدخّلات إقليميّة عربيّة وأخرى لقوى وتحالفات عالميّة، بحثا لتحقيق مصالح وأهداف شيء منها معلن وآخر قد يكون الزمان وحده كفيل بحلّ كلّ ألغازه. فكانت الحصيلة على المستوى الأمني، اهتزاز غير مسبوق في المنطقة، لم يستثن المحيط المباشر لبلادنا ممّا أثّر أيّما تأثير لا على المؤسّسة العسكريّة فحسب بل كذلك على كلّ مكوّنات المجتمع وعلى القيم والمفاهيم التي أصبحت تسوده. وفي خضمّ كلّ ذلك، يكاد يجمع التونسيّون وحتّى الملاحظون الأجانب على الدّور المؤسّساتي الإيجابي الذي لعبته القوّات المسلّحة التونسيّة في الدّفاع عن البلاد وحماية مؤسّساتها ومواطنيها، بالتصدّي للتّهديدات والمخاطر التي أحاطت بها ولا زالت كذلك، وهو ما مكّن البلاد من تحقيق ما أمكن إنجازه من انتقال ديمقراطي والتّوجّه ولو بصعوبة نحو الخروج من الأزمة. كان ذلك على غرار ما دأبت عليه المؤسّسة العسكريّة منذ الاستقلال، بالانصراف لأداء مهامّها المؤسّساتيّة، بكلّ شرف ونكران ذات وحرفيّة، رغم تواضع الإمكانيّات المخصّصة لها. وفي هذا الإطار الأمني المهتزّ والمتطوّر باستمرار وأخذا بعين الاعتبار التّحوّلات المتسارعة، سواء ببلادنا أو في المنطقة أو في العالم، أصبح من الضروري والمتأكّد، إصلاح قطاع الدّفاع، لتأهيل القوّات المسلّحة لأداء مهامّها الدستوريّة، الدّفاع عن الحرمة الترابيّة للبلاد وحماية المواطنين ومؤسّسات الجمهوريّة، ضدّ كلّ التهديدات والمخاطر، خارجيّة أو داخليّة كانت. بطبيعة الحال جزء من تلك الإصلاحات يتعلّق بمسائل ذات صبغة تقنيّة عسكريّة بحتة، من مشمولات القيادات العسكريّة التي من الأكيد توليها العناية الّتي تستحقّ. ونظرا لطبيعتها تلك لا يجوز الخوض فيها في العلن، فعلى أهمّيتها، لن أتطرّق لها في هذا الإطار. أمّا في المقابل، هناك من الإصلاحات الضروريّة والهامّة، دائما في قطاع الدفاع، ما هو من مستوى ومشمولات المؤسّسات والقيادات السياسيّة والعسكريّة العليا، وفي مقدّمتها رئيس الجمهوريّة القائد الأعلى للقوّات المسلّحة ورئيس مجلس الأمن القومي، تتمحور حول مسائل تعني في الواقع، ولو بدرجات متفاوتة، على حدّ السّواء، السلط السياسيّة صاحبة القرار بكلّ أفرعها ومستوياتها ومكوّنات المجتمع المدني والنّخب وكذلك المواطن العادي، وتفترض انخراط الجميع سواء في تصوّرها أو في تجسيدها على أرض الواقع، وتلك هي فحوى المقترحات المواليّة والدّاعية لإطلاق عاجلا عمليّة إصلاح قطاع الدّفاع بنظرة استشرافيّة تأخذ بعين الاعتبار خاصّة تغيّر الأوضاع الجيوستراتيجيّة والأمنيّة، بالمفهوم الواسع للعبارة، وحتما طبيعة التهديدات، التقليديّة والحديثة، بأبعادها الوطنيّة والإقليميّة وحتّى العالميّة، دون الإغفال عمّا حصل داخل المجتمع التونسي من تحوّلات.
وفيما يلي أهمّ الملفّات التي، في رأيي، تأتي على رأس أولويّات إصلاح قطاع الدّفاع في هذه المرحلة:
- تصوّر استراتيجيّة الأمن القومي ومنها ضبط السياسة الدّفاعيّة للمرحلة القادمة: كما هو معلوم، تتضمّن “استراتيجيّة الأمن القومي” الخيارات السياسيّة والاستراتيجيّة والعسكريّة الكبرى لتحقيق الأمن القومي للبلاد. وهو ما يمكّن من تصوّر سياسة دّفاعيّة وطنيّة، التي على ضوئها، تبني المؤسّسة العسكريّة مخطّطاتها وبرامجها. طبعا، بدون سياسة دّفاعيّة واضحة المعالم، يصعب على القوّات المسلّحة، مهما اجتهدت، تصوّر ووضع برامج الإصلاح المناسبة، تشمل تنظيمها وتسليحها وعقيدتها القتاليّة وتكوين إطاراتها وتدريب تشكيلاتها وانتشار مكوّناتها على التراب الوطني وغيره، أي الإصلاحات الضروريّة لتأهيلها لأداء مهامّها الدستوريّة، طبعا على ضوء التحوّلات والتهديدات والمخاطر الحاليّة والمستقبليّة، بالنجاعة المطلوبة. ومن هنا جاءت الحاجّة الملحّة لتفرض على أصحاب القرار، ضبط الخيارات وتوضيح الرؤى وبلورتها في استراتيجيّة أمن قومي وسياسة دّفاعيّة للبلاد. إنّ غياب استراتيجيّة أمن قومي وسياسة دفاعيّة واضحتين للعموم، على الأقلّ فيما يتعلّق بالخيارات الكبرى والأهداف، تحظيان بسند وطني واسع وتنخرط في تجسيدهما كلّ مكوّنات المجتمع، من شأنه عرقلة إنجاح المنظومة الدّفاعيّة للبلاد. إذ كيف يمكن على سبيل المثال، إنجاح منظومة الخدمة الوطنيّة إن لم تكن هذه تندرج ضمن سياسة دفاعيّة واضحة المعالم، تحدّد الأهداف والخطط والإمكانيّات ويتحمّس لها، أو على الأقلّ يقتنع بها الجميع، السّلط والمجتمع والأسرة والشّاب المعني بالخدمة؟
- إرساء هيئة “أركان مختلف الجيوش” وإعادة النّظر في تنظيم القيادة العليا لوزارة الدفاع الوطني: لقد أصبح من البديهي، الجزم بضرورة إرساء هيئة “أركان مختلف الجيوش” لتتولّى بالخصوص التخطيط وقيادة العمليّات التي أصبحت، في الواقع منذ عقود عديدة، تتمّ بمشاركة أكثر من جيش في العمليّة الواحدة وفي نفس الوقت، ومن هنا برزت الحاجة لأركان تضع برامج بناء القوّات وتخطّط للعمليّات المشتركة وتقودها وتنسّق تدخّل كلّ من الجيوش الثلاثة، على أن تتولّى الأركان الخاصّة بكلّ جيش إعداد القوّات التابعة له طبقا للمخطّطات المسطّرة للغرض. واعتماد هذا التنظيم، “أركان مختلف الجيوش”، معمول به في أغلب جيوش العالم، مع بعض الفوارق والخصوصيّات من بلد لآخر فيما تعلّق بمهامّها. ذلك مع التأكيد على أنّ الموضوع لا يتعلّق، كما يختزله البعض في خطّة “رئيس أركان الجيوش” يعيّن مناسبتيّا، بل بهيأة كاملة “أركان مختلف الجيوش” قارّة، لها مشمولات وتنظيم ووسائل وآليات عمل مضبوطة وبطبيعة الحال، لها رئيس يسيّرها. ولأسباب غير مفهومة وغير موضوعيّة، على كلّ في رأيي الخاصّ، لا زالت القوّات المسلّحة التونسيّة بدون “أركان مختلف الجيوش” وتمثّل بذلك استثناء نادرا في العالم، هذه المرّة استثناء غير محمود. ومن الظّروري، في صورة بعث هيئة “أركان مختلف الجيوش”، أن يصحب ذلك مراجعة جذريّة لتنظيم وصلاحيّات ديوان وزير الدفاع الوطني الذي، رغم المجهودات المبذولة، قد أخلّ في مناسبات عديدة بحسن سير دواليب الوزارة وذلك أمر طبيعيّ نظرا لضبابيّة مكانته ضمن السلّم القيادي ومهامّه وطبيعة تركيبته وآليّات العمل التي يعتمدها.
- إصلاح منظومة الخدمة الوطنيّة: من المعلوم، أنّه رغم إقرار دستور جانفي 2014 في فصله التاسع أنّ “الحفاظ على وحدة الوطن والدّفاع عن حرمته واجب مقدّس على كلّ المواطنين. الخدمة الوطنيّة واجب حسب الصّيغ والشروط التي يضبطها القانون”، فإنّ منظومة الخدمة الوطنيّة، قد اندثرت تماما أو كادت. ولن يتسنّ انتشالها إلاّ باعتماد مشروع قانون جديد للخدمة الوطنيّة يجعلها، على أرض الواقع، “واجبا شاملا لكلّ الشبّان التونسيّين” مهما اختلفت مستوياتهم التعليميّة وانتماءاتهم الاجتماعيّة والجهويّة وغيرها، وهو ما يضفي عليها صبغة “العدالة والمساواة بين جميع شبّان تونس”. إنّ إضفاء مبدأ “العدالة” على هذا الواجب الدستوري، لهو الشّرط الرئيسي لنجاح منظومة الخدمة الوطنيّة برمّتها، ولا بدّ من نجاحها لضمان توفير الموارد البشريّة الضروريّة للقوّات المسلّحة، أوّلا للدّفاع عن الحرمة الترابيّة للبلاد وحماية المواطنين ومؤسّسات الجمهوريّة، وكذلك تمكين المؤسّسة العسكريّة من أداء مهامّها التكميليّة، والتي لا تقلّ أهميّة، من نشر السّلم في العالم والمساهمة في المجهود الوطني التنموي في المناطق النائيّة والمساعدة على نجدة المواطنين عند حصول كوارث طبيعيّة كانت أو صناعيّة أو مروريّة أو غيرها. وبذلك تكون الخدمة الوطنيّة ضرورة حتميّة، لا مناصّ منها للدفاع عن البلاد وفي نفس الوقت، توفّر نفس المنظومة فرصا عديدة للشّاب المجنّد وللمجموعة الوطنيّة لابدّ من حسن استغلالها إذ تمكّن الشّاب، عند الحاجّة، من تكوين مهنيّ يؤهّله لسوق الشّغل، ومن جهة أخرى، تساعد على تدريب الناشئة بالممارسة اليوميّة، على تحمّل الصّعاب والمسؤوليّة والتعايش والتّسامح واحترام الآخر مهما كان الاختلاف معه والتضحيّة ونكران الذات من أجل الصّالح العام وغيرها من المفاهيم وقيم المواطنة. وبذلك تبقى المؤسّسة العسكريّة الإطار الأمثل، وربّما بعد تقلّص دور المدرسة في هذا المجال، الإطار الوحيد القادر على المساهمة بصفة فعّالة في تعزيز الاندماج الوطني بغرس وتأكيد روح وقيم المواطنة بين شبّان تونس من مختلف المستويات والجهات والفئات، وهو لعمري لهدف وطني عظيم يعزّز أمن البلاد، إذ بدونه، لا قدّر الله، انخرم المجتمع وضاعت البلاد.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى تقدّم وزارة الدّفاع الوطني، حسب ما توفّر، منذ بضع سنين بمشروع قانون جديد حول الخدمة الوطنيّة، لا زال ينتظر حظّه.
- مراجعة القوانين الأساسيّة للعسكرييّن (القانون الأساسي العامّ للعسكريين لسنة 1967 والأوامر المتعلّقة بالأنظمة الخاصّة بكلّ جيش وبهيآت الإختصاص): من الطّبيعي والملحّ أن تتماشى تلك القوانين تماما مع متطلّبات تونس ما بعد الثورة. ومن بين الإصلاحات التي تفرض نفسها في هذا المجال، أذكر:
– تأكيد القيم والأسس والمبادئ العسكريّة الثابتة التي تقوم عليها المؤسّسة العسكريّة مع اعتبار ما جاء بالدستور والقوانين اللاحقة له،
– تقنين العناية بعائلات شهداء المؤسّسة وبجرحاها، ضحايا العمليّات الميدانيّة،
– مزيد إحكام تراتيب التصرّف في الموارد البشريّة قصد تحفيز العسكريّين على مزيد البذل والعطاء من أجل التميّز والارتقاء في إطار يسوده التنافس النزيه والشفّاف حسب مقاييس موضوعيّة، مقنّنة ومعلومة من الجميع،
– التأكيد على التراتيب الرامية لانتقاء وإعداد القيادات العسكريّة في مختلف المستويات وخاصّة العليا منها، كاشتراط المرور عبر مسالك ومراحل مهنيّة وقياديّة معيّنة والنجاح فيها، طبعا إلى جانب متابعة التكوين المناسب للخطّة وتثمين الشهائد العسكريّة والعلميّة. وهو ما من شأنه تفادي التعيينات المسقطة والمضرّة بالمؤسّسة.
– مراجعة الجوانب المتعلّقة بالأوضاع الاجتماعيّة والمهنيّة للعسكريّين لتتماشى مع خصوصيّات الخدمة العسكريّة ومتطلّباتها المتطوّرة.
– ويبقى من أهمّ الإصلاحات المرتقبة في هذا الإطار، إقرار الحماية الكاملة، لا المدنيّة فقط بل وكذلك الجزائيّة، للعسكرييّن أثناء أدائهم للمهامّ التي تأذن بها لهم القيادة، طالما كان ذلك طبقا للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل في المؤسّسة العسكريّة.
وفي هذا السياق، إنّه لمن العدل والضروري أيضا، الإذن بمراجعة ملفّات بعض القضايا التي سلّطت فيها أحكام “جائرة” على عسكرييّن ليس لهم من ذنب سوى تنفيذ أوامر قياداتهم والمشاركة في عمليّات ذات طابع أمني خلال الأشهر الأولى من الثّورة في ظروف غامضة، نتجت عنها خسائر بشريّة. لقد حوكم وأدين أولائك العسكريّون دون أيّ اعتبار لصفتهم “العسكريّة” ولا لمقتضيات القوانين والتراتيب العسكريّة التي تفرض عليهم واجب الانضباط والطّاعة وتنفيذ الأوامر “بدون تردّد ولا همهمة” من جهة، ولا لضبابيّة وخصوصيّة الأوضاع التي حصلت فيها تلك التدخّلات العسكريّة. هل من العدل ومن المعقول، تحميل كامل مسؤوليّة نتائج العمليّات العسكريّة لمنفّذيها الميدانيّين، في حين أنّهم كانوا يؤدّون مهامّ أذنت بها القيادة ولم تثبت مخالفتهم القوانين والتراتيب العسكريّة الجاري بها العمل؟ ففيما تتمثّل مسؤوليّاتهم في تلك الحالة؟ حوكموا وأدينوا وكأنّهم تصرّفوا بمبادرة منهم ولحسابهم الخاصّ تماما كمجرمي حقّ عام، في حين كان من العدل وحسب قوانين جلّ جيوش بلدان العالم، تحمّل المؤسّسة العسكريّة، أيّ الدولة، مسؤوليّة الأضرار التي تحصل لأطراف أخرى جرّاء عمليّات أذنت بها القيادة، دائما، طالما كان ذلك طبقا للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل في الجيش وطبعا حماية أعوانها من العسكريّين. أمّا فيما يتعلّق باحتمال سوء تقدير الموقف وبالتالي اتّخاذ العسكريّين المعنيّين قرارا أعتبر خاطئا، فلا بدّ من التذكير بأنّ العمليّات العسكريّة لم تكن أبدا علما صحيحا وأنّ للعسكري الحقّ في هامش من سوء التقدير والخطأ. وفي كلّ الحالات، يبقى البتّ في مدى ارتكاب منفذّي العمليّة العسكريّة تجاوزات أو سوء تقدير للموقف، من اختصاص ومشمولات القيادة العسكريّة وحدها، وذلك لانفرادها بالتخصّص في ذلك وقدرتها عليه، إلاّ أنّه في الحالات المعنيّة، لم يتوفّر أن بادرت السلط العسكريّة لتلك الفترة بذلك، فراح أعوانها ضحيّة تخلّي الدّولة والمؤسّسة عن مسؤوليّاتهما تجاههم.
فالحماية القانونيّة الكاملة للعسكريّين، أثناء أدائهم لمهامّ أذنت بها القيادة، ما لم يخالفوا القوانين والتراتيب العسكريّة الجاري بها العمل، هي من أوكد الإصلاحات المرتقبة في إطار مراجعة القوانين الأساسيّة للعسكرييّن.
عموما، تكمن ضرورة وأهميّة مراجعة القوانين الأساسيّة للعسكريين في مزيد إحكام التصرّف في الموارد البشريّة، تلك الموارد التي تعتبر أهمّ عناصر قوّة الجيش الوطني، وتبقى هاته الاصلاحات ضروريّة لتأهيله ليكون على الدّوام في مستوى تهديدات ومخاطر وتحدّيات المرحلة.
- الدفع لتخصيص الحدّ الأدنى من الموارد الماديّة للمؤسّسة العسكريّة، موارد تتناسب مع طبيعة المهامّ المنوطة بعهدتها و مع حجمها ، إذ لا يعقل أن تخصّص للمؤسّسة إمكانات متواضعة ومحدودة مقابل تكليفها بمهامّ لا حدّ لها، نوعا وحجما. وليعلم الجميع أنّه لا بدّ من رصد اعتمادات إضافيّة عند الإذن للجيش بمهامّ غير مبرمجة، كما أنّه على الجهات التي تطلب خدمات من وزارة الدّفاع الوطني، تحمّل كلفتها وتسديد مقابلها. فللجيش الوطني، ميزانيّة مضبوطة ومحدودة لا يمكنه تجاوزها، حاله في ذلك حال غيره من مؤسّسات الدّولة. ومن البديهي أن تتحمّل المجموعة الوطنيّة أعباء ضمان استقلال البلاد وحماية مواطنيها، بدءا بأداء المواطن واجب الخدمة الوطنيّة وكذلك توفير الدّولة الموارد الماليّة الضروريّة، تلك هي كلفة الاستقلال والسيادة الوطنيّة والأمن والاستقرار. ربّما يمكن الاعتماد على الغير في العديد من المجالات إلاّ أنّه لا يعقل التعويل على الغير في الدّفاع عن الذّات وعن استقلال الوطن وسيادته، حتّى وإن تطلّب ذلك، الثّبات والصمود وفي الآخر التضحيّة بالنّفس، فما بالنا إن اقتضى التضحية بشيء من المال وتقديم متطلّبات الدّفاع على رأس الأولويّات الوطنيّة، خاصّة في هذه المرحلة بالذات. كما أنّه لا بدّ من إيلاء الأوضاع المهنيّة والاجتماعيّة للعسكرييّن، خاصّة فيما يتعلّق بالسّكن والصحّة، الاهتمام اللازم، حيث لا يعقل مثلا، أن تشهد صيدليّات الجيش الوطني منذ سنين، ولا زال الأمر كذلك ليومنا هذا، نقصا متواصلا في أغلب الأدوية التي يشير بها الأطبّاء على مرضاهم. أمّا في مستوى التجهيزات فليعلم السادة أصحاب القرار وكذلك المواطنون، أنّ تحقيق صفقات اقتناء منظومات الأسلحة والمعدّات العسكريّة، في صورة توفّر الاعتمادات، يتطلّب سنين طويلة. فلا بدّ من دراسة الحاجيّات بدقّة لضبط أولويّاتها وبرمجة اقتنائها على امتداد سنوات ثمّ إدخالها الخدمة وتدريب الوحدات على استخدامها لتبلغ المستوى العمليّاتي المطلوب وتكون بذلك جاهزة للتّدخّل عند الضّرورة أي عندما يفرض عليها الطرف المعتدي ذلك من حيث التوقيت وكذلك المكان. على القوّات المسلحّة أن تكون جاهزة باستمرار وقبل تجسّد أيّ تهديد ومحاولة الإعتداء على سلامة البلاد، فلا يمكن والأمر كذلك، تأجيل تحقيق الحدّ الأدنى الضروري من المعدّات لمجابهة التهديدات بتعلّة ضغوطات الميزانيّة أو تقديم أيّ أولويّات أخرى؟ على كلّ، لن تنفع الاستفاقة ومحاولة استدراك الأمر بعد حصول الاعتداء.
باختصار شديد، إنّ الرّهان الوطني الحقيقي في هذا المجال هو، إمّا أن تكون القوّات المسلّحة جاهزة باستمرار، لردع كلّ من يفكّر في أيّة محاولة الاعتداء على البلاد والقدرة على التصدّي لأيّ اعتداء إن حصل، أو لا تكون. ويتمّ بلوغ تلك الجاهزيّة بدءا من تصوّر استراتيجيّة لتحقيق الأمن القومي تنبثق عنها سياسة دفاعيّة تعتمدها القوّات المسلّحة لبناء برامج تنظيمها وتجهيزها وتكوين إطاراتها وتدريب تشكيلاتها وغيره.
السيد رئيس الجمهوريّة، القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، هذه بعض الملفّات، وقد لا تكون الوحيدة، أراها جديرة بالأولويّة في إصلاح قطاع الدفاع. ذلك مع التّذكير بأنّ الإصلاح في الواقع، لا يمكن أن يكون إلاّ جهدا متواصلا، سعيا لمواكبة التحوّلات في البلاد وفي المنطقة ومع متطلّباتها وهو ما يقتضي في هذه المرحلة، التسريع في الشروع في تلك الاصلاحات في أعلى المستويات بدون مزيد التأخير. ومن شأن تقدّم تلك الإصلاحات في المستوى الوطني، تمكين القيادات العسكريّة بل ودفعها لإطلاق برامج الإصلاح داخل المؤسّسة ذاتها على قاعدة الخيارات الوطنيّة مضمون استراتيجيّة الأمن القومي والسياسة الدفاعيّة المعتمدة.
نعم السيد الرئيس، القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، رغم تزاحم الأولويّات، فلقد حان الأوان لتهبّ رياح الإصلاح على قطاع الدّفاع، وذلك في صميم مسؤوليّاتكم الدستوريّة.
وفّقكم الله لما فيه خير البلاد والعباد، حفظ الله تونس.
أمير لواء (متقاعد) محمد المؤدب