الخطاب على الباب او العودة الى الزمن الجميل للتلفزة التونسية

كتبت : مريم بنعيسى

الخطاب على الباب المسلسل الّذي ينتظره المشاهد في شهر رمضان و في ظاهره بسيط و رواية عن أجواء الأحياء العتيقة بالعاصمة في شهر رمضان ، و لكن في باطنه رؤية عميقة لواقع ما و مخزون ثقافيّ و أدبي و فلسفيّ يظهر ذلك من خلال الأحداث و الشّخصيّات حتّى الأزمنة و الأمكنة الّتي تناسقت لتكوّن هذا العمل الّذي لا نملّ من تكراره لما شدّ الإنتباه فيه الكتابة الفنّيّة و إحترافيّة الإخراج ، قد تبدو أحداثه تسير على منوال عاديّ لكنّها في الحقيقة جمعت بين متناقضات عدّة نُظمت بشكل سلس فنجد الطّرافة و الكوميديا و الهزل ، الجدّ و واقع الحال في فترة ما ، الحزن و المعاناة و الحيرة ، الحبّ و الشّاعريّة ، تقدّم هذه الصّياغات جملة من الشّخصيّات الّتي وُسمت هي بدورها بطابع مختلف عن غيرها فهذا ” الشّاذلي التّمّار ” ربّ العائلة الموقّر و البرجوازي الحدثي المعروف لدى أهل الحيّ بشهامته و الّذي غالب طابع الجدّ على شخصيّته ، ” صفيّة ” سيّدة المنزل المتأنّقة على الدّوّام و النّموذج الحدثي للمرأة الّتي تقرّر كسر الصّورة النّمطيّة للنّساء آنذاك و تقرّر أن تجد صفة أخرى لها غير ربّة البيت من خلال العمل ، أمّا عن ” نانا منّانة ” فهي صورة كلّ جدّة في منزلنا الّتي يُحاوط الفراغ يومها من كلّ جانب ما يجعلها يقظة حتّى لرنين الهاتف ، من الطّارق و معرفة ” الشّقيقة و الرّقيقة ” و لكنّ لمكانتها أهمّيّة بالغة إذ لرأيها السّديد فارق كبير لذلك نرى ” الشّاذلي” يعود أحيانا بأمره عليها ، كما هي تجسيد لت المعركة الأزليّة بين ” الحماة و الكِنّة ” فلم تخلو حلقات المسلسل من طلقات كلاميّة حامية بينها و بين ” صفيّة ” ثمّ ” الشّيخ الهادي تحيفة ” شخصيّة رُكّبت بإتقان شديد كوميديّة طريفة لكنّها تتمتّع بحسّ أدبي و لعلّ هذا ما ميّزها في المسلسل أيّما تميّز و على ما أظنّ لم تملك أيّ شخصيّة أخرى” لياقة ” لمواجتها فكانت الأولى من ناحية الطّرافة و الكوميديا و الشّخصيّة الّتي بمجرّد رؤيتها تضحك ، ” فاطمة ” الإبنة المدلّلة و الفتاة الرّصينة ، مرهفة الحسّ و عاشقة الأدب ، الّتي تقف مغتربة في عمر ما بين توديع المراهقة و إستقبال العشرينات و بين عائلة عصيّ على أفرادها فهمها و حبّ ناشئ مع ” سيد أحمد ” ذلط الشّاب الأنيق فكرا و مظهرا و صورة شابّ التّسعينات ، الشّاعر و العاقل و القارئ ، الّذي يضفي على كلماته من سحر الشّعر و الأدب ، ” قمر الزّمان و حفّة ” شخصيّتان تصارعان من أجل إنتزاع صفة إنسان على الأقلّ و ليس بكناية السّارق تجدان في الفنّ و المسرح هذا الإعتراف بهما فيقول قميّر لـ حفّة في إحدى الحلقات في هذا الشّأن ” ما تخافش مدام نار الفنّ في قلبك ” و ” حدّة المعينة” الّتي أضنتها مهام المنزل و وجدت مرفأ راحتها في ” عثمان ” الشّخصيّة الّتي تعكس التّغيّر الجديد في تلك المرحلة تماما كما غيّرت في شؤون عمل ” الشّاذلي ” أمّا ” المنجي ” فكان بشخصيّته يولي إعتبارا لقيمة علميّة ما و ينفض عنها غبار آراء الجميع المزدرية لها كنعته بـ ” حفّار القبور ” و ” متاع الموتى ” من أفراد عائلة زوجته ” سعاد ” تلك المرأة الّتي تحاول إنقاذ أسرتها من الشّتات و في نفس الوقت تحمي دراستها و عملها من العطالة و البطالة ، ” صليح ” النّجّار الكفؤ و النّفس المحبّة و القلب الرّقيق رقّة عصفوره ” مليح ” و صورة كلّ رجل عرِف في حيّه بالنّزاهة فهو كما يعدّه” قميّر” بـ ” سارية كبيرة ” و ذلك من خلال وقوفه جانب أصدقائه دائما و لعلّ أبسط مثال تشغيله لـ ” عبودة ” معه رغم أنّه لا يفقه من النّجارة شيئا لكنّه أفلح في أن يحبّ شخصيّته الطّريفة المتفرّج و ذلك من خلال لكنته و سذاجته الّتي تتعدّا حدّ البلاهة أو كما جاء في وصفه على لسان” روضة ” : ” أنت وليّد ظامر ” ، طبعا و كما في أيّ حيّ ثمّة ثلّة من القنوات الإخباريّة الّتي تجد عندها أخبار كلّ متساكني الحيّ فكانوا في المسلسل كلّ من ” منيرة ” ، ” بهيجة ” ، ” بيّة ” و ” ناجية ” و على وجه الخصوص ” منيرة ” كانت هي الّتي تعلم بالخبر ثمّ تنقله إمّا عبر الهاتف أو في حلقاتهم المعتادة بعد الإفطار ، أمّا ” نعيمة ” فهي شخصيّة أُقيمت على متضادّين تظهر في المسلسل بحجم كبير و شعر منكوش لكنّ باطنها غير ذلط تماما لها نفسٌ طيّبة و قلب محبّ و سذاجة تصل حدّ الإشفاق عليها فلو لم تكن كذلك لما أحبّت ” قميّر ” فهي حقّا نعيمة بما يحمله الإسم من معنى لكن ليست ” غولة ” فإسمها و سمات شخصها ينفيان هذه الكنية ، و دائما ما ثمّة شخص في كلّ حيّ لا يعجبه شيء و يقلق لكلّ شيء و كان هذا ” ستورة ” أو ” عبد السّتّار الأنتريتي” الّذي يردُّ على التّحيّة بعبارة ” باللاّزمة إلاّ ما نشكي بيك ” و الّذي يتواطؤ مع عنوان الرّأسماليّة المقيتة و الّتي أساسها الرّبح المادّي على حساب الفنّ و التّراث و القيم و كلّ ما هو جميل و الّتي جسّدها ” لمين ”
أمّا الزّمان و كيف أسهم بشحن أحداث المسلسل و تقارب الشّخصيّات فكان زمنا رمزيّا جدّا في شهر رمضان” شهر اللّمة” و الّذي لا يلتمّ فيه شمل عائلة ” الشّاذلي ” و حسب بل عائلاتنا جميعا ، فإجتماع العائلة على طاولة الإفطار و تحلّقهم في ما بعد في غرفة الجلوس ، آداء صلاة التّراويح ، السّهر مع الرّفقة في المقاهي ليس إلّا تماهيا و انعكاس لصورة الجوّ الرّمضانيّ لدينا في مسلسل ” الخُطّاب على الباب ” أمّا الأمكنة فكانت فضاءات رحبة ، فضاءات إجتماع العائلة و إجتماع الأصحاب فكانت أغلب المشاهد إمّا في ” قهوة السّوق” أو ” منزل العائلة و تحديدا” قاعة الجلوس ” الّتي تجتمع فيها العائلة في السّهرة بعد الإفطار .
مسلسل” الخُطّاب على الباب ” لم يكن مجرّد مسلسل يُعرض و رواية بسيطة و حسب يجذبنا الحنين للفترة الّتي عرُض فيها لما فيه من مماهات لواقعنا بل أيضا رؤية ثقافيّة و فلسفيّة عميقة و ذا طابع رمزيّ و فنّي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!