ما حصل بعد 2011 هو زواج شرعي بين الثيوقراطية الاسلامية والمكيافيلية البريطانية…دستور المخزن والبورجوازية

*كتب المازري الحداد :

في الخامس والعشرين من شهر جويلية الماضي وعملا بمقتضيات الفصل 80 من دستور 2014، قرر الرئيس قيس سعيد اعادة الهيبة الى الدولة التونسية واسترجاع نفوذها استجابة لمطلب شعبي ملح أصبح الكل ينتظره ويدعو إليه. عملية الإنقاذ الوطني هذه وإن حازت على دعم شعبي تاريخي جاءت سريعا نتائج سبر الآراء المتواترة وعلى اختلاف المراكز التي أجرتها لتسقط كل حجة عن المناهضين لها إلا من بعض الأصوات الناعقة المأجورة لدى محور الدوحة-اسطنبول المعادي لمصلحة الشعب التونسي ولكل شعوب المنطقة العربية لأن أجندة هذا المحور هي وضع المنطقة تحت وصاية الآستانة ومبايعة السلطان العثماني اميرا للمؤمنين والخليفة السادس.

 

كما كان الشيء متوقعا خالفت هذه الأصوات المأجورة لهذا المحور القطرائيلي-التركماني التفاعل الإيجابي مع هذا الحدث التاريخي للإنقاذ الوطني وإنبرت تطلق رسائل تحذيرية وتخويفية ولا أقول متشائمة على طريقة أسطورة كاسندر الاغريقية (مع الفارق هو أن كاسندر كانت تقول الحقيقة ولكن لا أحد يصدقها). تهافتت هذه الأصوات بعضها يدين حصول “انقلاب”، وبعضها الآخر يستنكر “العودة الى الديكتاتورية”، والبعض يتنبأ بسقوط “آخر معقل للديمقراطية” وليدة “الربيع العربي”. بكل صفاقة هناك من هذه الغربان الناعقة من تذكر ذاك ” الربيع ” المزيف الذي لم يخلف وراءه الا الدمار والخراب والأنقاض، وأذاق الشعوب المرارة من دمشق إلى تونس مرورا بطرابلس.

 

وتهافت التهافت كما يقول ابن رشد، وبكل وقاحة وعمالة تعالى التنديد والصراخ لتحريض أطراف غربية سياسية وحقوقية وصحفية ضد القرارات السيادية التونسية. وانخرط هؤلاء العملاء في المشابهة بين الماريشال عبد الفتاح السيسي والرئيس قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري وذلك في استخلاص فج أبله بأن مصر كانت البلد العربي ما قبل الأخير الذي سقط في أحضان “الديكتاتورية” أما الأخير فهو تونس في نظرهم!

للرد على جميع هؤلاء سوف أقول ما يلي: أولا الشيء من مأتاه لا يستغرب. ثانيا الذي سقط في تونس ليس الديمقراطية، ولا الحريات السياسية، ولا حرية الصحافة، ولا حتى الدستور. كل هذه المكتسبات الناتجة عن “ثورة” جانفي 2011 محفوظة لأنها نهائية لا رجوع عنها. من كان يحلم بعودة الحكم الواحد {1987} فهو واهم ومن يتمنى البقاء على منظومة خريطة الطريق {2011} فهو خاسر. وإدراك الذي يأتي قريب ولكن الذي يمضي هو البعيد.

 

ما سقط في تونس مؤخرا هو حزب “النهضة” الإخونجي، آخر معقل من معاقل التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. والإخوان المسلمون هم عبارة عن طائفة سياسية- دينية ارهابية مشبوهة كانت قد ولدت في مصر عام 1928. وقد تولدت عن زواج شرعي بين الثيوقراطية الاسلامية من جهة، والمكيافيلية البريطانية من جهة أخرى.

وحتى أكون نزيها وموضوعيا أعترف بأن قرارات الرئيس ألغت بعض الحقوق والاستحقاقات. فقد ألغى قيس سعيد الحق في العمالة والحق في النهب والحق في الفرار الى الخارج… ما سقط اذن في تونس هو ذاك الحزب “الاسلامي- المحافظ”. وذلك اذا ما استعرنا هذا المصطلح من أولئك المهووسين الغربيين بحب الأصولية الاسلاموية بشكل عام و”بالأصولية المعتدلة” بشكل خاص. فهؤلاء اليساريون –الاسلامويون الفرنسيون والغربيون عموما يحبون هذه الأصولية الى حد الهوس والغرام بها. انهم جميعا من صحفيين، أو مثقفين أوسياسيين، معجبون بها جدا. هنيئا لهم!

أن سقوط حزب النهضة التونسي ينصاع الى نفس المنطق الذي فرض نفسه على السلطات المصرية عام 2013، بمعنى آخر فان جماعة الإخوان المسلمين العميلة والارهابية هي التي كانت مستهدفة في حالة عبد الفتاح السيسي يوم 26 يوليو عام 2013 وكذلك في حالة قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021.

لا ريب في أن هذه الجماعة كانت قد إنتصبت على سدة السلطة ديمقراطيا على أثر ذلك الغليان الذي يدعى بالربيع العربي، ولكن الشيء الهام الذي ينساه البعض هو التالي: إن ذات الشعب الذي صوت في مصر للإخوان المسلمين هو الذي نزل الى الشوارع بالملايين للتظاهر ضدهم. أكثر من 23 مليون مصري هتفوا باسم عبد الفتاح السيسي ودعوه لإنقاذ البلاد من براثن الاخوان المسلمين.

وفي تونس يوم 25 جويلية تظاهر الآلاف في مختلف المحافظات والولايات مطالبين الرئيس قيس سعيد بما كانوا يرددونه منذ أشهر وبإلحاح لكي يحل البرلمان ويحظر جماعة النهضة اي حزب الاخوان المسلمين.

وهذا يعني أن الرئيس التونسي المنتخب شرعيا من قبل قرابة الثلاثة ملايين تونسي ونظيره المصري الماريشال السيسي الذي دعاه 23 مليون مصري، قد تصرفا بشكل قانوني محض (أي طبقا للأحكام الدستورية).  والأهم أنهما قد تصرفا طبقا للشرعية عندما لبيا المطالب الشعبية ونداء المتظاهرين في كلا البلدين.

هناك سبب أساسي لكل ما حصل، هؤلاء الأصوليون “المعتدلون” أو المزعومون كذلك كانوا قد وضعوا على سدة السلطة بفضل كرم وجود قطر واعلامها الكاذب والسفيه وبواسطة الدعم السياسي الغربي، وبخاصة الأمريكي وقد أشعرهم هذا الدعم والدفع بالقوة والغطرسة. تمادوا في عنجهيتهم وقد فعلوا كل شيء لكي يقسموا المجتمع ويحدثوا الفتنة فيه بعد أن وصلوا الى السلطة.

لقد استولوا على كل هياكل الدولة، وأفرغوا صناديقها المالية، وخربوا الاقتصاد الوطني، وأبرموا التعاقدات المشبوهة مع مشيخة قطر وسلطنة أردوغان وازدروا التعليم الحديث لمصلحة المدارس الطالبانية، وأفسدوا وسائل الاعلام والعدالة، ورشوا النواب الذين لا ضمير لهم ولا شرف واشتروهم، وأثاروا عمليات الاغتيال المعنوي والمادي وحرضوا ودبروا ونفذوا عمليات الاغتيال السياسي … كل هذا فعلته النهضة وأزلامها من اليسراويين والحقوقيين والثورجيين خلال العشر سنوات الماضية.

كل هذا من انجازاتهم، والأخطر والادهى من كل ذلك هو أنهم تورطوا في التعامل والتعاطف مع ذلك الخليط السديمي للجماعات الإرهابية من القاعدة الى داعش مرورا بجبهة النصرة التي ذبحت وسحلت اخوتنا الابرار في سوريا العزيزة. وجبهة النصرة هي التي قال عنها وزير فرنسي سابق للشؤون الخارجية بأنها تقوم بعمل جيد في سوريا! وكان هذا التصريح سقطة رهيبة، وخطيئة لا تنسى ولا تغفر.

 

ولكن هنا تتوقف كل مشابهة بين الحالة المصرية السابقة والسيناريو التونسي الحالي. وكل من يزعم وجود تشابهات أخرى يكون اما سيء النية، واما سفسطائي، واما يمارس التضليل والتدجيل، واما يدعم بروباغندا الاخوان المسلمين. ومعلوم أن وسائل الاعلام ذات الحساسية المتدنية اليسارية- الإسلاموية تفعل ذلك هنا في فرنسا وفي الغرب عموما.

نذكر من أبرزها جريدة النيويورك تايمز في الولايات المتحدة وجريدة اللوموند في فرنسا والتي سبق وكتبت وادعت سنة 2012 بأن الجاهل والمتحيل راشد الغنوشي متحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون العريقة. كما يقول لورد بايرون “تحب الحماقة الشهادة في سبيل الشهرة” وكما يقول المثل العربي “السرج المذهب لا يجعل الحمار حصانا”.

لا يوجد اذن أي تشابه بين الحالة المصرية والحالة التونسية غير الذي ذكرناه، ذلك لأن الدستور التونسي على عكس السيناريو المصري لم يُلغ ولم يتم إبطاله بعد، على الرغم من نواقصه العديدة وعلى الرغم من المطالبات الشعبية بإلغائه. والبرلمان لم يتم حله بعد، على الرغم من تشوهه الخلقي والأخلاقي وانحطاط قيمه وقيمته والحط من مقامه المؤسساتي من قبل زعران ومجرمين وارهابيين ودواعش لا يستحقون أن يمثلوا الشعب التونسي كما لا يمثله قرابة ال220 حزبا وقع الترخيص بقيامها ابان ما سمي بثورة الياسمين في جانفي 2011. بعد ذلك التاريخ راكم الواقع السياسي والمؤسساتي التونسي عديد الخطايا لعل أساسها، خطيئة عياض بن عاشور أولا ونواقص الدستور ثانيا وما جنته على تونس من وبال ثالثا.

 

خطيئة بن عاشور الأصلية

النظام الانتخابي الذي وضعه متعمدا بن عاشور والذي قام عليه المجلس التأسيسي وهو الذي بقي قائما إلى حد اليوم، هو نظام انتخابي على القوائم وأفضل البقايا. وحتى لا أطيل في خزعبلات “العلامة” عياض بن عاشور، أقدم لكم مثلين الأول، محمد المنصف المرزوقي الذي وبتزكية من سيده الغنوشي وبدعم من شيوخه في قطر سطا على كرسي رئاسة الدولة التونسية بعد حصوله على 7000 صوت بأفضل البقايا في قائمة مترشحة عن دائرة نابل. والمثل المأساوي الثاني في البرلمان الحالي هي كتلة التيار الديمقراطي التي مر 17 نائبا من أصل 21 منها بأفضل البقايا.

هل هناك أخطر من هذه الخطيئة الأصلية المتعمدة والمدبرة للإضرار بتونس التي ارتكبها بن عاشور ومن حوله حتى يكون من أوكد الواجبات إسقاط هذا الدستور والقطع مع النظام الإنتخابي الذي جاء” بالمؤسسين” اللذين صاغوا الدستور من أمثال سنية بن تومية وإبراهيم القصاص والحبيب اللوز وسليم بن حميدان وفطوم لسود ووليد البناني … والنواب الحاليين من ذوي السوابق العدلية ومرتكبي الجرائم المستمرة الذين تتالت تنبيهات رئيس الجمهورية لهم وهم مستمرون وفي غيهم يعمهون.

 

في نواقص الدستور الموجبة لبطلانه دون الحاجة إلى إبطاله.     

من أهم نواقص الدستور التونسي الحالي تقسيم السلطة الى ثلاثة أقطاب متخاصمة بشكل مؤكد ومفتعل. السلطة التشريعية في يد حزب الأغلبية التي يخولها النظام الإنتخابي وليس الواقع السياسي، أو أحزاب الأغلبية في البرلمان (وهي حاليا في يد حزبي النهضة الاخواني، وقلب تونس الذي أسسه رجل الاعمال الفاسد والمتحيل نبيل القروي). المعلوم في هذا المشهد، أن راشد الغنوشي سطا على رئاسة البرلمان بإعانة وتورط نواب حزب قلب تونس وأحزاب انتهازية أخرى باستثناء الحزب الدستوري الحر.

إرتهنت هذه السلطة التشريعية ولمصلحة تنظيم الإخوان، كافة القرار الوطني وعبثت بمصير الشعب التونسي ومقدراته ومدخراته إلى حد تبييض الإرهاب وتمجيده في سرديات مدحية في نقاشات برلمان وصل به الأمر إلى استضافة إرهابيين في رحابه وممارسة الإرهاب علنا بالتعنيف المتكرر لرئيسة كتلة معارضة بكل صلف وبمباركة من رئيسه شيخ الإرهاب راشد الغنوشي.

هذا المشهد البرلماني المهيمن على الحياة السياسية والمؤسساتية قابلته سلطتان تنفيذيتان مستقلتان عن بعضهما البعض : رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء.(المادة 71 من الدستور تنص على استقلالية كل منهما). هما سلطتان متصارعتان احتمالا (المادة 101 من الدستور) حيث ان رئيس الجمهورية يمتلك سلطات سيادية حقيقية ذات شرعية نصية ومشروعية انتخابية شعبية ولكنها محدودة، وفي إرادة إقصائية مقصودة في ذهن محرر الدستور بن عاشور وإملاء سيده فيلدمان (المواد 72-88 من الدستور).

وأما رئيس الوزراء فيمتلك سلطات معادلة لسلطات رئيس الجمهورية ان لم تكن أكبر (المواد 89 الى 101)، مقصودة كذلك بنفس الدناءة حتى يكون رئيس الحكومة دمية طيعة في يد الإخوان الذين ضمنوا بموجب نمط القانون الإنتخابي وطبيعة تنظيمهم القطيعية حيزا برلمانيا يجعل خيار الحكومة ورئيسها أداة لتحقيق أهدافهم.

أما فيما يخص السلطة القضائية فقد سطا عليها الإخوان المسلمون منذ الأيام الأولى بعد ما سمي بالثورة بعزل قضاة مختصين في مكافحة الإرهاب كانوا يمثلون رموز نجاحها في القضاء على هذه الآفة وحتى يشرعوا تمرير قانون العفو التشريعي العام الذي أطلقوا فيه الآلاف من الإرهابيين ليصنعوا ما كان “يذكر الغنوشي بأيام شبابه..”، واكتوت بحقدهم تونس وباردو وسوسة وبن قردان وطرابلس وبنغازي ودمشق وحلب وتمبكتو ونيس…

ثم وفي 2012، أتم البحيري المهمة بعزل عشرات القضاة، كما هو معروف للقاصي والداني وذلك لفرض سيطرة الإخوان على هذه السلطة القضائية طيلة سنوات. لكن صحصح الحق وزهق الباطل ذات 12 جويلية 2021، يوم وجد المجلس الأعلى للقضاء مجبرا على إحالة البشير العكرمي قاضي الإخوان وحامي الإرهاب على التحقيق وسقطت ورقة التوت وبدأ التدحرج السريع إلى الهاوية : التنظيم السري، الأمن الموازي، التخابر مع أطراف ودول أجنبية الاغتيالات، التسفير وتصدير الإرهاب والابتزاز …وغيرها من الملفات التي كانت مركونة على الرفوف -مثلما صرح بذلك الرئيس قيس سعيد- غادرت الركن وأخذت طريقها إلى البحث. القائمة تطول حول توظيف الإخوان للقضاء للبقاء في السلطة وإطالة تمترسهم وراء مضمون خاوي ومزيف تحت لافتة استقلال القضاة والواقع هو استقالة السلطة القضائية من دورها التحكيمي والرادع لكل مؤامرة واعتداء.

ما جناه دستور بن عاشور- فلدمان لسنة 2014 هو السقوط وراء السقوط حتى تتفكك الدولة. نظام “الحكم الرشيد” الثوري للترويكا الثلاثية، ثم من بعده تخاتل التحالف بين النهضة- ونداء تونس. هذا النظام الأخير برئاسة الباجي قائد السبسي الذي يتحمل مسؤولية الخيانة للملايين الذين انتظروا وأملوا في استرجاع الدولة وما حصدوا إلا الانهيار لمكانة الدولة وهيبتها التي كان يتشدق بها، وتفشي الفساد، وإفقار قيم المجتمع وتفقير الشعب.

نحن نعلم منذ عهد مونتسكيو بل وقبله، منذ الفيلسوف الانجليزي جون لوك أن أفضل طريقة “لعدم الإفراط في استغلال السلطة هو وجود سلطة مضادة توازنها أو تقف في وجهها”. واذا كنا قد فهمنا جيدا كتاب “روح القوانين” لمونتسكيو فان مبلور هذا المبدأ كان يقصد به صراحة السلطات الثلاث: أي التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.

نقول ذلك ونحن نعلم أن نظرية الفصل بين السلطات هي التي أسست عليها الديمقراطية الغربية. وهي تهدف الى التمييز بين مختلف هياكل الدولة العليا وتأمين استقلاليتها الذاتية بغية تحجيم الافراط والتعسف الاعتباطي في ممارسة السلطة. ولكن استقلالية هذه السلطات الثلاث لا تنفي تكاملها وتناغمها فيما بينها بل بالعكس.

المشكلة في حالة الدستور التونسي هي أن الاستقلالية كانت نظرية ان لم نقل خيالية هلامية، وأن الخصومة بين السلطات الثلاث هي الحاصلة فعلا لا التناغم والانسجام والتكامل وروح المسؤولية. إن المادة 101 تتحدث عن هذه الخصومة النزاعية صراحة اذ تقول: “ان الخلافات الناشبة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء على الصلاحيات ترفع النزاعات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلى المحكمة الدستورية التي تبت في النزاع في أجل أسبوع بناء على طلب يرفع إليها من أحرص الطرفين”.

ولكن المشكلة هي أنه منذ إعلان هذا الدستور التوفيقي أو التلفيقي فان المحكمة الدستورية لم تر النور وكان محكوما عليها منذ ميلاد الدستور أن تكون أداة في خدمة الإخوان بواجهة من المتحذلقين الإنتهازيين بأداة الديمقراطية ولكم دليل على ذلك مرشحو الإخوان طيلة هذه السنوات. وتمادى الأصوليون المتمركزون في سدة السلطة في أن يكون رئيسها وأغلبية أعضائها {12} من جماعة النهضة الاخوانية وجزء سلفي وآخر من الدمى التي تحركها ولهذا السبب تعذر تشكيلها ولن تتشكل بهذا الدستور وبهذا البرلمان.

إن هذا التفتيت للسلطة التونسية هو الذي حال دون ممارسة عملها بشكل فعال، وهو الذي جعلها عاجزة عن تحسين الوضع الاقتصادي، وتوظيف الشباب العاطل عن العمل، ومساعدة الفقراء ومواجهة فيروس كورونا… وهنا يكمن السبب الأساسي للأزمة الحالية في تونس. وهي أزمة ابتدأت بصراع مباشر ومفتوح بين الرئيس قيس سعيد ورئيس الوزراء هشام لمشيشي المعزول طبقا لمقتضيات المادة 80 من الدستور. فهذا الأخير أصبح نصف رئيس وراح الإخوان يوغرون صدره حتى رفض سلطة الدولة الواحدة التي يجسدها فقط رئيس الجمهورية. تمادى في ذلك ثم تمرد وخان الوديعة على قول الرئيس قيس سعيد في تنبيهاته العديدة، غير أن الإخوان لم يأبهوا للتنبيه.

ظن الإخوان أنهم في نفس سيناريو ما حصل في أزمة عام 2018 بين الرئيس الباجي قائد السبسي وبين رئيس الوزراء آنذاك يوسف الشاهد، أحد الصبيان الهواة في عالم السياسة، الذي انقلب على رئيسه وولي نعمته السبسي خضوعا وخدمة لحزب النهضة الإخواني، واعتقد سيء الذكر الشاهد أنه بذلك يمكن أن يحتل كرسي الرئاسة في قصر قرطاج. أقول اليوم تلك العبارة التاريخية الشهيرة: أنت أيضا تريد أن تقتلني يا ابني! كما قال يوليوس قيصر لبروتوس. بمعنى: أنا الذي صنعتك يا بروتوس وها أنت تغرس الخنجر في صدري. هذا ما فعله يوسف الشاهد مع الرئيس السابق الباجي قائد السبسي حتى رحيله.

لكننا اليوم في حضرة رئيس قالها عاليا الوطن أو الشهادة، إنه قيس سعيد ذي المليونين وسبعمائة ألف صوت من التونسيين اللذين عبر 87% منهم منذ أيام أنهم راضون عن الإجراءات التي اتخذها بموجب الدستور، ضد اللصوص الذين يتخفون وراء النصوص والقول ما قاله وما فعله.

هذا النظام السياسي التونسي منتوج الخيانة، وليد “الربيع العربي”، تركيبة هجينة بين الفضاضة الدستورية والشلل السياسي وتوقف آليات السلطة حتى يصل الإخوان إلى مأربهم الأساسي وهو إسقاط الدولة.

بين ما اصطلح على اعتباره زورا وتحيلا دستوريا الرئاسات الثلاثة ضاعت تونس وأوشكت الدولة على الضياع. هذه الرئاسات تشل كل منها الأخرى وانتقلت تونس من دولة بدون حقوق سياسية قبل ثورة الياسمين الى حقوق سياسية بدون دولة بعد ربيع الخراب.

كانت فرنسا قد عرفت هذه الحالة التراجيدية- الكوميدية سابقا أيام الجمهورية الرابعة، لكن “أعظم الفرنسيين” الجنرال ديغول طبقا لكلمة رينيه كوتي الشهيرة وضع حدا لهذه المهزلة الدستورية والسياسية، وذلك عن طريق اعتماد دستور جديد عام 1958.

هذا الدستور أراده الجنرال ديغول وصممه ميشيل دوبريه. وقد اعتبر آنذاك أفضل ما يمكن من الدساتير بغية اعادة الهيبة للجمهورية والدولة الفرنسية، هيبة كانت تحللت بفعل الزمن والأحزاب المتصارعة ورجال السياسة المتنافسين على الغنائم أكثر من تنافسهم على خدمة الدولة والمصلحة العامة. انهارت لذلك الجمهورية الرابعة وقامت على أنقاضها الجمهورية الخامسة. ومع ذلك فان ديغول نفسه هو الذي عدل عام 1962 بعض مواد دستور 1958 بل وكان يفكر في تعديله مرة أخرى عام 1969 على أثر أحداث مايو 1968. وهذا يعني أن الدستور ليس نصا مقدسا لا يمكن المساس به. فإن اقتضت الحاجة ينبغي تغييره أو تعديله على الأقل.

لقد شهدت بلادي على غرار فرنسا منقذها أيام زمان. كان ذلك على يد الزعيم الحبيب بورقيبة الذي أعطى الأمة التونسية دستورا جديدا عام 1959 ، دستورا مشابها للدستور الذي أعطاه ديغول لفرنسا( والدليل هو أن بورقيبة استشار ميشيل دوبريه آنذاك). مأساة تونس الحالية هي أنها شهدت بعد المرحلة الثورية منذ عام 2011 وبنوع من الهستيريا الجماعية وجود “نخب” سياسية فقرها الفكري مدقع، دون أي كفاءة حقيقية لقيادة البلاد وبلورة نموذج جديد من الحوكمة، غير أنها إغترت وانخدعت بالقول بأنها أعطت لبلاد الياسمين “أفضل دستور في العالم” لا أكثر ولا أقل!

لقد نبهنا “المجاهد الأكبر” الى نوعية المسألة الجوهرية المطروحة على البلاد. نعم هذا ما عبر عنه بورقيبة بشكل رائع في خطابه يوم 15 أكتوبر من عام 1970 عندما قال: “ان الدستور، أي دستور، ليس كاملا أبدا ولا قيمة له الا بقيمة الرجال الذين يطبقونه”. علاوة على ذلك فان التونسيين الذين قاموا بثورة الياسمين في جانفي عام 2011 وبخاصة الشباب العاطلين عن العمل ما كانوا يبحثون إطلاقا عن دستور جديد.

كان هذا آخر هم من همومهم وإنما كانوا يريدون أساسا وهذا حقهم المشروع: ” خبز حرية كرامة وطنية ” أي أن تعيد لهم الدولة كرامتهم الشخصية عن طريق اعطائهم فرص العمل وانقاذهم من البطالة والفقر. كنت أنا شخصيا قد قلت ونبهت منذ عام 2011 بأنه كان من الأفضل المحافظة على دستور الآباء المؤسسين للجمهورية (1959) مع تعديله حتى يواكب زمنه ويتخلص من شوائبه ويقطع مع انزلاقات لعل أفظعها المادة التي أضيفت بشكل غبي عام 1974 الا وهي الرئاسة مدى الحياة. وحسب مقولة جلال الدين الرومي فالعارف هو من رأى النهاية في البداية.

إن الأسوأ من كل ذلك هو أن دستور 2014، الذي يفتخر السيد عياض بن عاشور وبكل تبجح وصلف بأنه مؤلفه أو مدبجه بمساعدة غازي الغرايري الذي اختاره عوضا عن جوهر بن مبارك ليس في الحقيقة منتوجا وطنيا خالصا. فعلا دستور 2014، مستورد من الولايات المتحدة الامريكية! ولذلك والسبب لذلك معلوم، فالواقع أن الملهم الحقيقي لهذا الدستور هو نواه فيلدمان الأستاذ الجامعي الأمريكي، وهو عضو في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.

هذا المجلس هو أحد المختبرات الفكرية الأكثر نفوذا في مجال التخطيط للشؤون الاستراتيجية والسياسة الخارجية الامريكية. وكان من بين أعضائه في الماضي مادلين أولبرايت وكولن باول. وما إن سقطت تونس في حضن الأصولية “المعتدلة” كما أرادت الادارة الامريكية حتى سارعت واشنطن وأرسلت الى تونس نواه ر. فيلدمان ليقترح على راشد الغنوشي والمنصف المرزوقي تقديم “أفضل دستور في العالم” لهما كهدية.

ينبغي القول أنه فيما يخص فبركة الدساتير الجيدة المرشحة للتصدير الى “الديمقراطيات” الاسلامية المقبولة، فانه صحيح القول بأن السيد فيلدمان كان “مصيبا” في المصيبة التي أصبحنا اليوم قادرين على أن نقيس مدى فداحتها بالنسبة للشعوب التي طبقتها: فالعراق أصبح مدمرا بفضلها، كذلك الأمر بالنسبة لأفغانستان المهددة اليوم بالتقسيم والانفجار عن طريق استعادتها من قبل جماعة الطالبان البرابرة والذين تدعمهم قطر والباكستان.

على الرغم من اختلاف الدساتير العراقية (أكتوبر 2005)، والأفغانية (جانفي 2004)، والتونسية (جانفي 2014)، الا أنها تحمل كلها بصمات أو بالأحرى نفس الجينات التي زرعها المستر فيلدمان هذا. أخطر هذه الخصوصيات، هي تبعثر السلطة الى ثلاث سلطات مصغرة مستقلة ومتصارعة احتمالا ثم حتما. وان لم يتأثر الدستور اللبناني بتدخل أمريكي (وانما فرنسي) الا أنه يعاني من نفس المشكلة، من نفس الوصمة.

وقد كان فيلدمان نشر عام 2008 أول كتاب كبير له عن طريق منشورات جامعة برنستون بعنوان: سقوط الدولة الاسلامية وصعودها. وفي هذا الكتاب يلعب دورا مزدوجا: فهو أولا من جهة يقوم بدور المنظر للدولة الاسلامية، ومن جهة ثانية يلعب دور المحامي عن الأصوليين الأكثر راديكالية ومن بينهم هذا الشخص المقرف المدعو: يوسف القرضاوي، وذلك الشخص الكريه الآخر راشد الغنوشي. فهما في نظره من “المسلمين الديمقراطيين المستنيرين”! على هذا النحو يراهما هذا الجاهل بالإسلام والعلوم الاسلامية والشؤون العربية. ولكنه مع ذلك يتنطع للحكم على الموضوع وكأنه من أكبر العارفين بتاريخ الاسلام.

وتعليقا على هذا الكتاب يرى المفكر التونسي الراحل عبد الوهاب المدب أن “عودة دولة القانون الى هذه البلدان لن تحصل الا بعد قيام الدولة الاسلامية وتطورها طبقا لنسخة جديدة لا تعيد من جديد جهاز علماء الدين الذين ما عدنا بحاجة اليهم. وفي مثل هذا السياق فان تعلق بعضهم بالشريعة أو مطالبتهم بها لا ينبغي أن يخيفنا بعد اليوم. فالأمر لا يتعلق بالعودة الى حرفيتها وانما الى جوهرها… على هذا النحو تنتهي دولة انعدام القانون والمؤسسات وتنبثق دولة القانون التي سوف تعرف كيف تنفتح على الممارسات الديمقراطية والتمثيلية الغالية علينا نحن الغربيون. وهكذا عن طريق استلهام روح الشريعة فان الذات التشريعية تؤلف الدستور”(هذه المقالة منشورة يوم 20 يناير 2014 في مجلة “ليديرز”التونسية تحت عنوان: الأسس النظرية للدعم الأمريكي للأصولية الاسلامية).

وقد علق على ذلك المرحوم عبد الوهاب المؤدب، وهو من المفكرين التونسيين القلائل اللذين اهتموا بدراسة فكرة فيلدمان، قائلا: “هذه هي الفكرة العجيبة المخترعة من قبل نواه فيلدمان الذي يعتقد أن الاخوان المسلمين هم المؤهلون للقيام بهذه العملية الهادفة الى جعل الدولة الاسلامية دولة حق وقانون.

وهم في رأيه الذين سوف يحدثون هذه الدولة ويجددونها. وينبغي على الغربيين بالتالي أن يتخلصوا من هذا الرُهاب أو هذه الفزاعة التي تثيرها لديهم كلمة الشريعة. فالإخوان المسلمون لا يطالبون بها الا لكي يلائموا دولة القانون مع الامكانيات المحلية، مع التراث الخاص بالبيئة العربية أو الاسلامية، وبالتالي يرى فيلدمان أن الاخوان المسلمين هم الذين سيكونون حلفاءنا في المستقبل، وليس الديكتاتوريين العلمانيين”(المصدر السابق). سوف ألخص نظرية فيلدمان هذه (التي هي أساسا عنصرية وثقافوية لا ثقافية) بالعبارة المقتضبة التالية: للمسلمين الشريعة المجددة، ولنا نحن الامريكان البترول والنفوذ: لكل دينه!

بخصوص البترول نقول ما يلي: عندما غزت القوات الامريكية العراق عام 2003 ينبغي التذكير بأن الشاب فيلدمان هذا كان قد عين مستشارا دستوريا لدى هيئة الاحتلال التي يقودها القنصل الأول الحاكم بأمره بول بريمر{صديق سهام بن سدرين}، وقد طلبوا من فيلدمان أن يدبج لهم “القانون الاداري للمرحلة الانتقالية” ( تذكرنا وأكيد تذكرتم  الهيئة التي ترأسها بن عاشور وصياغتها للدستور الصغير). وهو الذي شكل بداية تحرير الدستور لهذا البلد العربي المزعزع والمغزو من قبل الاحتلال الامريكي.

وكان الأستاذ الجامعي المرموق ادوارد سعيد قد أدان آنذاك هذا التدخل الامريكي وانتقد فيلدمان شخصيا. يقول عنه حرفيا: “كان فيلدمان خبيرا لامعا جدا في القانون الاسلامي… ولكنه لم يمارس القانون أبدا في العالم العربي. ولم يزر العراق أبدا سابقا وبالتالي فلا يعرفه اطلاقا. ولا يبدو أنه كان يمتلك الخبرة العملية الحقيقية بمشاكل ما بعد الحرب في العراق. كم يمثل ذلك اهانة ليس فقط بالنسبة للعراق ذاته وانما أيضا بالنسبة لذلك العدد الغفير من المثقفين ورجالات القانون العرب والمسلمين، لقد كان بإمكانهم أن يقوموا بعمل جيد لمصلحة مستقبل العراق، لكن أمريكا لا تريد ذلك وانما تريد أن يقوم بالعمل شاب طري من أبنائها وذلك لكي تستطيع أن تقول بعدئذ بكل عنجهية وافتخار: لقد أعطينا للعراق ديمقراطيته الجديدة”( أنظر جريدة الأهرام. عدد 22 مايو 2003).

لم يكن ادوارد سعيد يجهل أبدا أن المهندس الأكبر للدستور العراقي كان تلميذا وتابعا للبروفيسور جون لويس ايسبوسيتو، أستاذ العلاقات الدولية والدراسات الاسلامية في جامعة جورج تاون بواشنطن. ولقد التقيت شخصيا بهذا الرجل عام 1992 في لندن صحبة الوزير الأول السابق محمد مزالي والوزير الاشتراكي الراحل احمد بن صالح (كنت آنذاك أحد اللاجئين السياسيين النادرين في فرنسا). التقيته في مؤتمر تم عقده في جامعة لندن للاقتصاد والسياسة وكان عنوان المؤتمر آنذاك: “الاسلام والديمقراطية”، بعدئذ علمنا أن هذا المؤتمر كان منظما وممولا من قبل جماعة الاخوان المسلمين وكان هذا البروفيسور الامريكي صديقا حميما لراشد الغنوشي وأحد المدافعين المتحمسين جدا عن التيار الأصولي، على غرار فرانسوا بورغا في فرنسا.

لا ريب في أن جان ايسبوسيتو عالم كبير، نقول ذلك على الرغم من أنه لا يضاهي برنارد لويس في أمريكا، ولا تيودور نولدكه في ألمانيا، ولا العلامة المستشرق جاك بيرك في فرنسا. ولكنه في ذات الوقت مناور كبير ورجل ظل ولوبيات وعلاقات خطير، بل انه لوبي بذاته. وضع علمه الغزير وشبكة علاقاته الواسعة ولوبياته على ذمة القوة الناعمة الامريكية وأحيانا القوة الخشنة أيضا. ولكن اذا كنا لا نستطيع لومه على عمله هذا من أجل خدمة مصالح بلاده، كما يفعل تلميذه فيلدمان، فإننا نستطيع بل ويجب علينا أن نلوم بعض مواطنينا التونسيين من مثقفين وسياسيين ثوراجيين لأنهم لم يعملوا لخدمة المصالح التونسية وسيادة تونس في لحظة حاسمة من لحظات تاريخها بل عملوا لمصالحهم الشخصية وبعقلية الغنائم والغنيمة مثلهم كمثل الاخوان المتسترين بالدين.

قمة المأساة هي أن البروفيسور فيلدمان كان موجودا في باردو في شهر جانفي من عام 2014 أي في اليوم الذي تم فيه التصويت على الدستور المستورد من قبل 217 شخصا من بينهم الجهلة والمرتزقة واللصوص وقطاع الطرق والإرهابيين المموهين باسم: ممثلي الشعب!

إن الرئيس قيس سعيد مدعو لمحو هذه الإهانة التاريخية الكبرى التي حلت بتونس وشعبها وبقيت بصمة عار على جبين تونس الحضارة والمجد والحداثة والسيادة الوطنية. ان الواجب الأخلاقي والسياسي والوطني يفرض عليه ذلك. أياً يكن رأينا في هذا الدستور، بل وحتى لو افترضنا أنه ممتاز نظريا وقانونيا، فانه ينبغي تعديله أو الغاؤه كليا. هذا واجب قطعي ملزم. لماذا يفرض هذا الواجب؟

أولا وبشكل أساس لأن الدستور مطبوع بوصمة التدخل الخارجي، وهو تدخل يستعرضه اليوم راشد الغنوشي علنيا وبكل وقاحة على التلفزيونات الأجنبية وعلى صفحات النيويورك تايمز أيضا.

ثانيا لأن هذا الدستور يحمل في نصه وروحه بذور استحالة حكم البلاد بشكل طبيعي وفعال ومثمر. يحمل أيضا بوادر الزعزعة وعدم الاستقرار بشكل مزمن لتونس بالأساس ولجوارها أيضا لمواصلة مشروع الخراب وهو ما جعل قيس سعيد يلتقط اللحظة في حينها يوم 25 جويلية قبل الساعة صفر التي تقرر فيها ( بقرار وتمويل قطرائيلي- تركماني ومباركة نهضاوية)، إشعال الحدود الشرقية بعمليات إرهابية نوعية تهدد استقرار المنطقة.

الرئيس قيس سعيد يدير الأزمة الحالية بكل حكمة واعتدال عن طريق معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحيوية والملحة بشكل عاجل. لكن الأكيد بعد أن نتجاوز هذه العاجلات من المهام، على الرئيس قيس سعيد أن يكرس جهوده لخوض المعارك الكبرى في عمقها، والأساسية منها هي استرجاع السيادة التونسية. من هنا نبدأ.

ولعله على غرار الجنرال ديغول وفي تماه مطرد مع شعاره الإنتخابي الأول ” الشعب يريد”، العودة إلى الشعب وطرح الاستفتاء الشعبي كوسيلة للتصويت على دستور جديد يكون وطنيا بشكل كامل لا مستوردا من الخارج. أو على الأقل إصلاح دستور 2014 عن طريق تخليصه من خطيئته الأصلية أي من المواد المزعزعة التي تعرقل حكم تونس بشكل صحيح وفعال. لكي ينجز الرئيس ذلك فانه يستطيع الاعتماد على المادة 143 من الباب الثامن من الدستور الحالي.

كان الفيلسوف السياسي الكبير جوليان فروند قد كتب مقدمة لكتاب كارل شميت “مفهوم السياسة”، وفي هذه المقدمة يقول ما يلي: “المشكلة بالنسبة لبلد ما ليس أن يمتلك دستورا كاملا خاليا من النواقص والعيوب، ولا أن يكون في حالة بحث عن نظام ديمقراطي مثالي، وانما المشكلة تكمن في تزويد البلاد بنظام قادر على حل مشاكلها المحسوسة، والمحافظة على النظام والاستقرار عن طريق ابتداع تجديدات مبتكرة قادرة على حل الصراعات التي تنبثق حتما في أي مجتمع بشري”.

 

ينبغي على الرئيس المنتخب مباشرة من قبل الشعب، وينبغي على أستاذ القانون الدستوري على الرغم من أنف ونرجسية عياض بن عاشور، ينبغي على المفكر الاصلاحي، ينبغي بشكل خاص على الوطني الحقيقي، أن يتأمل في هذا الدرس.

على ذلك تتوقف خارطة الطريق ومصيركم ومصير تونس ذاتها. واذا ما انزعج حراس المعبد الديمقراطي وحقوق الانسان في الغرب، سواء أكانوا من الدول الصديقة أو العدوة، أو من المنظمات غير الحكومية، أو من وسائل الإعلام الغربية، فإن الرد عليهم يا فخامة الرئيس ببرودة أعصابك المشهودة وقل لهم وجها لوجه: رجاء وفروا علينا نحيبكم وعويلكم على الديمقراطية.

رجاء وفروا علينا اداناتكم الأخلاقوية المتغطرسة والمنفعية ولا أقول الأخلاقية. رجاء اهتموا بشؤونكم الشخصية. عفوا إن كنتم متعلقين الى مثل هذا الحد بالأصولية “المعتدلة”، فلماذا لا تعتمدونها عندكم؟ اجعلوا من أتباعها رؤساء بلديات في فرنسا وأمريكا، اجعلوا منهم نواباً، ووزراء، بل وحتى رؤساء اذا كان ذلك يسركم ويبهجكم. إن الأصوليين الذين تحبونهم وفرضتموهم على الشعوب لم تعد لهم مكانة في تونس ولا في مصر ولا حتى في ليبيا لأن الشعب لفظهم وكرههم وفهم جيدا الفرق الساطع والدامغ بين المدينة الفاضلة للفرابي التي وعدوا بها الرعاع والمدينة الفاسدة والشمولية التي فند لها رسولهم الأول حسن البنا الساعاتي.

*بقلم المازري الحداد فيلسوف وسفير سابق لتونس لدى اليونيسكو ورئيس المركز الدولي للدراسات الجيوسياسية والاستشرافية بباريس.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!