كتب محمد الرصافي المقداد / خذوا مدنيّتكم لا حاجة لنا بها وأتركوا لنا ديننا

بقلم: محمد الرصافي المقداد

   بعد السقوط الأخلاقي لدول الغرب، وتعرية نواياها الخبيثة، يؤسفني أن أجد نفسي أمام مصيبة لا تقلّ عنها واقعة بيننا، متمثلة في السقوط الديني لدى مجتمعاتنا العربية، التي أظهرت في معضلة اجتياح فايروس كورونا، تصرّفات دلّت أنها لا تزال بعيدة عن قيم دينها، وأبعد من ذلك في تطبيقاته التي لا مفرّ منها، والتي يأثم الجميع ويحاسبون على عدم القيام بها، ويرتفع عنهم الإثم بقيام البعض بها، فيسقط عن الباقي.

لقد نسيت مجتمعاتنا أننا نعيش في عالم مؤقت، سينتهي بحلول ساعة انتهائه، واننا مقبلون على عالم آخر، مختلف تماما عن الذي نحن فيه، ليس بمقدورنا حمل شيء مادّي مما نعمل على تحصيله، ولا حتى الصفات المهنية التي لصقت بأسمائنا، ولا كراسي الحكم التي كان بعضنا يعمل على إبقائها تحته بأي صورة كانت، حتى بالغصب والظلم، فقط ستذهب أجسادنا  في أحسن الأحوال جثامينا، الى قبور غفلنا عنها أغلب حياتنا، فلم تذكّرنا فيها ذنوبنا التى نقترفها كل يوم، ولا حتى زياراتنا الى المقابر، ونحن نودع أحبّاءنا من الاهل والاصحاب والجيران، أو نؤدي واجب زيارة موتانا لمن وجب علينا أداؤها، اطلالات تنتهي بمجرد الخروج من المقابر، كأنما الأمر لا يعنينا أبدا، أو أننا مستثنون من سنة الله في خلقه، بأننا ميتون لا محالة في وقت محدد، علمه عند خالق الكون ومنشئ الحياة من عدم.

ما أفزعني حقا وبلادنا اليوم تحت جائحة وباء خطير، أصوات تعالت بضرورة حرق جثامين الموتى بفايروس كورونا، كأنّما هي  أصوات هندوس مقيمين في بنزرت، يطالبون بتطبيق ديانتهم في موتاهم، وأصوات أخرى لعلعت دون حياء، ووقفت مستميتة في وجه جثامين، رافضة دفنها في مقابر منطقة سكناها، وأصوات أخرى لم تستحي من نفسها، قاطعت البيوت التي أبتلي فرد من أفرادها بالإصابة، وهي في مساكنها تطبق أمر الحجر الإجباري احتياطا، لم تجد من يقدم لها أدنى مساعدة، فأيّ مجتمع نحن؟ وأيّ دين أو إنسانية تحمل قلوبنا؟

ما دفعني بإلحاح  للكتابة هنا، انتهاك حرمة الميت بالكورونا وهضم حقوقه من طرف أولياء أمورنا، بعلم منهم أو بجهل سيّان الأمر، فالجميع هنا محاسبون أمام الله، على التقصير في الواجب الذي هو في مقام فرض كفاية، كما أشرت اليه في بداية مقالي، تذكيرا مني وتحذير لأهل الاختصاص الذين أبدوا موقفا غير متناسب مع الحكم الشرعي، وينبئ بشر وعقوبة جزائية من الله بما كسبت أيدي هؤلاء من اثم جرّاء ما قرروا.

عندما كان الطاعون يعصف بأسلافنا في القرون الماضية، لم يكن الأحياء ليتركوا موتاهم، دون تغسيل وتكفين ودفن شرعي، حتى بأقل ما تطلق عليه هذه السنن الواجبة، ومن المفيد هنا أن أقول، إنّ ذلك الأمر كان موكلا الى أهل الميت، بحكم معرفتهم ودرايتهم بكيفية تغسيله وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه، وآداب الدعاء له وتلقينه، ولولا جهودهم في احتواء الوباء بالدفن، وهم لا يملكون شيئا مما نمتلكه من وسائل الوقاية، لقضى أهل منطقة الوباء جميعا.

لقد لفت انتباهي تدوينة الدكتور ذاكر لهذيّب بصفحته على الفايسبوك عبّر من خلالها عن تقصير من طرف الاطباء والسلطات المعنية بدفن ضحايا الفايروس.. ووجه تدوينته الى من لقّبهم بحماة المقابر الجدد، الذين وصل بهم الحد الى قذف الجنازة بالحجارة، أنهم أكبر حملة للعدوى من المتوفى باعتبار أن الفيروس يموت  في جسد الميت في مدة تتراوح ما بين3 الى 72 ساعة، والفايروس يبقى في رئتي الميت لتوقف تنفّسه. (1)

الخوف المفرط  من انتقال عدوى كورونا، أنسانا ديننا وواجبنا نحو موتانا، مع أننا نمتلك من وسائل الوقاية، ما يستحيل معها انتقال الفايروس من الميت الى الحي، والذي زاد الطين بلّة الفتوى المتسرّعة والغير دقيقة في استنباطها، الصادرة عن مفتي الجمهورية التونسية عثمان بطيخ في مداخلة له اليوم الخميس في برنامج “هنا تونس” عبر موجات ديوان أف أم، إن كافة التراتيب المعمول بها في دفن المتوفين بفيروس كورونا المستجد شرعية.. وتابع بطيخ” طالما هناك خطر من انتقال العدوى فانه يزول الحرج ويجب عدم تغسيل الميت ويمكن الاكتفاء بفرد واحد للقيام بصلاة الجنازة، مبينا بانه يتم اعتماد طريقة خاصة في تكفينه.. وأوضح بطيخ أن المتوفي بالفيروس يتم تعقيمه وتعقيم التابوت الذي سيوضع فيه و يدفن في مكان خاص في مقابر المسلمين ويمكن أن يحضر الجنازة فرد أو فردين من أفراد العائلة مع اتخاذ مسافة الأمان.(2)

دار الإفتاء السنية بمحافظة كردستان غربي إيران، ذهبت الى ما ذهب اليه المفتي عثمان بطيخ ، فأصدرت فتوى بجواز دفن وفيات كورونا دون تغسيل وتكفين، وذلك نظرا إلى احتمال انتقال الفيروس منها، إلى القائمين على إجراءات التكفين والتغسيل، وتعريض حياتهم للخطر.

البيان الذي اصدره اساتذة جامعة الزيتونة ببلادنا، يتفق تقريبا مع ما كان اصدره الامام الخامنئي عندما أجاب على سؤال موجّه اليه:

السؤال: إذا توفّي شخص على أثر إصابته بمرض الكورونا المعدي، والذي يرى المتخصّصون أنّه سريع السراية والانتشار، فما حكم تغسيل هكذا ميّت وتكفينه والصلاة عليه؟

الجواب: مجرّد الإصابة بهذا المرض لا توجب سقوط الأحكام الواجبة تجاه الميّت، وبناءً عليه يجب القيام بالحدّ الأدنى من التكاليف الواجبة، لجهة تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، مع مراعاة جميع الإجراءات الصحيّة، واستعمال الوسائل الوقائيّة، حتّى لو اقتضى ذلك صرف نفقات ماليّة .وفي صورة تعذّر الغسل الترتيبي، يجب تغسيله ارتماسيّاً، فإن تعذّر الغسل يُيَمَّم الميّت بيده مرّة بدلاً من الغسل بماء السدر، و مرّة بدلاً من الغسل بماء الكافور، ومرّة بدلاً من الغسل بالماء الخالص، مع مراعاة الترتيب المتقدّم، ثمّ يحنّط ولو من فوق الملابس، ثمّ يكفّن ويدفن.(3)

ويتطابق مع  دار الافتاء المصرية التي جاءت اجابتها كالآتي:

الأصل فيمن مات من المسلمين أن يغسّل ويكفّن ويصلى عليه صلاة الجنازة، ولكن في زمن انتشار الأوبئة التي تثبت الجهات الطبية المختصة انها تنتقل من الميت لمن يلمسه، فعندئذ يكتفى بصب الماء عليه وإمراره فقط باي طريقة كانت دون تدليكه، مع أخذ التدابير الاحترازية لمنع انتقال العدوى الى المغسّل، من تعقيم الحجرة، وارتداء المغسل بدلة واقية، وفرض كل سبل الوقاية من قبل أهل الاختصاص في ذلك قبل القيام باجراء الغسل، ومنعا من الحاق الأذى بمن يباشر ذلك، وان كان يخشى من نزول سوائل من جثته، فمن الضروري احاطة الكفن بغطاء محكم لا يسمح بتسرب السوائل منه. (4)

وبعد هذا هل يعذر المفتي بطيخ فيما أفتى به وعارضه عليه اساتذة الزيتونة وهم أهل الاختصاص، مع اجتماع رأي الطب مع احكام الموتى الواجبة كفائيا علينا، ولا مناص لنا من تحمّل تبعات الاخلال بها امام الله، ولا التفات لمن تعذّر بالدولة المدنية، المتنصّل من أحكام الاسلام بعذر أقبح من ذنب؟

ما يجب علي ذكره في هذا المقال، تصدّر طلبة وطالبات العلوم الدينية واساتذتهم في إيران، مشهد الواجب الذي قاموا به ولا يزالون، في تغسيل وتكفين ودفن موتى فايروس كورونا، وهم ينتقلون من حوزاتهم الدينية الى المشافي، للقيام بواجبهم في التغسيل والتكفين والدفن، مع الاجراءات الوقائية الكاملة، التي أعدّت لكل متطوّع منهم، للقيام بعملية التغسيل والتكفين، لقد كان مشهدا يهز النفوس المؤمنة، بأن هذه الاجساد التي فارقتها الحياة، هي لإخوة يجب القيام بأقل الواجب نحوها، أمرا من الله وليس فضلا من أحد، أما أدعياء المدنية والعالقون بأوهامها، والذين تطاولوا على أساتذة جامعة الزيتونة، فلن تنفعهم دعاويها التي أقاموها على أنفسهم تهيئا، فاضحة ضمائرهم باعتراضهم على أحكام الإسلام.

وأجد نفسي مضطرا لتوجيه القول الى دعاة المدنية زورا، خذوا مدنيّتكم التي تتذرّعون بها كل مرّة، فلا حاجة لنا بها، واتركونا وشأننا مع أحكام ديننا، لا تفسدوا علينا آخرتنا، كما أفسدتم دنيانا.

المصادر

http://https://www.aljarida.com.tn/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1-%D9%84%D9%87%D8%B0%D9%8A%D8%A8-%D8%AC%D8%AB%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AA-%D8%A8%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%8F%D9%85%D8%AB%D9%84-%D8%A3%D9%8A-%D8%AE%D8%B7%D8%B1-%D9%88%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%86%D9%82%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%88%D9%89

http://https://www.diwanfm.net/news/%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D9%85%D9%81%D8%AA%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9%3A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%85%D9%88%D9%84-%D8%A8%D9%87%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%AF%D9%81%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%88%D9%81%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D8%B4%D8%B1%D8%B9%D9%8A%D8%A9

http://https://www.leader.ir/ar/content/24303/%D8%AA%D8%BA%D8%B3%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%91%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%81%D9%8A%D9%86%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87

http://https://www.youm7.com/story/2020/3/19/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%87%D8%B1-%D9%84%D9%84%D9%81%D8%AA%D9%88%D9%89-%D9%8A%D9%88%D8%B6%D8%AD-%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%AA%D8%BA%D8%B3%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%81%D9%8A%D9%86%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%A9/4677369

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!