كتب محمد الرصافي المقداد / برلمان تقاسم كعكة الشعب وتبادل المصالح الحزبية

بقلم: محمد الرصافي المقداد

تعيش دول كثيرة، تحت حكم انظمة برلمانية رئاسية، منها ما أثبت نجاعته، وعادة ما يكون ذلك في الشعوب الواعية وخياراتها السليمة، ذلك لان الثقافة في فهم القانون، واحترامه الى درجة التقديس، وأدبيات العمل به، كانت عاملا مهما، في حسن أداء برلمانات وطنية، لم نرى فيها ما يحاكي الفوضى، وغلبت عليها علامات تدعو الى اخذها بجدية، ومتابعتها للوقوف على دواعي سلوكها مسلكا مصلحيا، سواء اكان ذلك لحساب البرلماني نفسه، أم لحساب حزبه.

وقد عشنا في تونس ثلاثة انتخابات، واحد تأسيسي واثنين برلمانيين، وشاهدنا من عجائب جلساتها، ما جعل بعضنا يندم على تصويته لهذا او ذاك، ليتواصل مسلسل الخيبات السياسية في بلادنا، ولا ندري الى أي مدى ستبقى  ولا بأي سبيل ستزول؟

الدورة النيابية الجديدة الثانية، في عامها الأول 2019/2020، شهدت تراجعا في عدد نواب حركة النهضة، لكن ذلك لم يمنعهم من البقاء كأكبر كتلة برلمانية، ذات امتياز على بقية الكتل، لكن مع وجود أحزاب معادية للحركة، وممثلة بدرجة أقل في البرلمان، جعل من العسير على رئيسها راشد الغنوشي ادارة سير أعماله، خصوصا بعد أن سافر الى تركيا والتقى بالرئيس التركي أردوغان، واتصاله بالرئيس الليبي المؤقت السراج، وتهنئته بانتصاره الاخير على قوات المشير خليفة حفتر، فقد أثارت تحركاته حفيظة اغلب الاحزاب في تونس، بما في ذلك رئيس الجمهورية، وخلقت أجواء متوترة بين الرئاسات الثلاث، وطيعي ان ينعكس ذلك بالسلب على سير اشغال جلسات البرلمان، حيث شهدت قبّته، مشادات عديدة بين نوابه، بلغت الى الاعتصامات، وتعطيل سير أعمال المجلس، مما دعا كتلا برلمانية، الى تقديم مشروع سحب الثقة من الرئيس، بإمضاء 73 نائبا، من دون نواب حزب الدستوري الحر، الذين قدموا  لائحتهم في نفس اليوم الى مكتب رئاسة البرلمان.

اما بالنسبة لجلسة سحب الثقة من رئيس البرلمان الحالي راشد الغنوشي، فقد امتنع عن التصويت فيها مع حضورهم، نواب حركة النهضة وائتلاف الكرامة، وإنّ ما استفز مشاعرنا فيها، المظاهر العبثية التي تخللت أعمال  هذا البرلمان، فتحول في اغلب جلساته الى حلبة نزاع وصراع، استعملت فيها الفاظ وتصرفات، بعيدة كل البعد عن منطق العقلاء والمسؤولين أمام الشعب – ولا اجرؤ على القول بانهم مسؤولون أمام الله رغم اليمين الذي ادوه على قرآنه –  فعندما يسجل المجلس غياب عدد كبير من النواب، و ويسجل الإقتراع 18 ورقة ملغاة – العجيب فيها، أن كل ورقة منها صوت صاحبها بنعم وبلا في نفس الوقت – فذلك يعني ان هؤلاء الذين الغوا أوراقهم، قصدوا منه غاية غير بريئة، جاءت نتيجة تفاهمات تمت قبل يوم الجلسة، بين حزب الحركة وقلب تونس، ذكرتنا بما سبق عملية انتخاب الشيخ راشد رئيسا للمجلس، وما جرى فيه من تفاهمات غير معلنة، كما هي حال تفاهمات جلسة سحب الثقة.

وليس بإمكاني تجاوز الورقتين البياضويتين، فهما قد عبرتا عن طبيعة نائبين آخرين، اخرجا تونس من حساباتهم، وقد كان بإمكانهم الامتناع عن التصويت تماما، ولكن يبدو أن الحسابات الشخصية والحزبية طغت على أغلب نواب شعبنا، وهي في هذه الدّورة قائمة عل  قدم وساق، لا تخلو من سمسرة وتبادل مصالح، على حساب الاوضاع العامة للبلاد، والمخاطر التي تحيط بها اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.

لقد كان الاعتقاد السائد قبل 24 ساعة، أن عدد النواب المطلوب لسحب الثقة، متوفر بأكثر من 106 وهو العدد الذي نص عليه الفصل 51 من الدستور، لسحب الثقة من رئيس المجاس، ولكن حصلت المفاجأة في عملية الاقتراع السرية، وسقطت اللأئحة، هذا وقد اتهم حسونة النّاصفي، رئيس كتلة الاصلاح وآخرون حركة النهضة، بممارسة ضغوط على النواب، لعدم التصويت لسحب الثقة من الغنوشي.

جلسة سحب الثقة من رئيس البرلمان الشيخ راشد الغنوشي، أوفت بما ذكرته من مهزلة، ووقفت بنا على حافة اليأس، من صلاح حال هذه الدورة البرلمانية، حيث تبين لنا ان اخر ما يهتم به في جلساتها هو الشعب ومصالحه، والصراع الدائر هناك، هو بين الاحزاب المتناحرة، تطاحن من أجل تخوين هذا أو ذاك، بلا فائدة تلحق الشعب.

مشاريع قرارات وقوانين أسقطت عمدا مع انها مثلت مواقف شرف ووطنية، ووفاء بالتزامات الشعب التونسي، المرتبط اخلاقيا وتاريخيا ودينيا بقضايا أمته العربية والاسلامية، كقانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي بقي خارج إطار مداولات البرمان، امتثالا وانصياعا لأمريكا وفرنسا تحديدا، وخشية من غضبهما على الدّولة التونسية.

وان اسوا ما جرى تحت قبة البرلمان، هو اسقاط مشروع قانون، يطالب فرنسا بالاعتذار من جرائمها فترة استعمارها لبلادنا، بما اعتبره احرار تونس خيانة لدماء الشهداء، واهدارا لحقوقهم التاريخية في كشف تفاصيل تلك الحقبة والتي لا تزال فرنسا محتفظة بها، وأكثر من ذلك نهب خيرات البلاد وكنوزها في تلك الفترة، وهي حقوق مادية يجب أن تعاد الى الوطن، أو تقدّر قيمتها المادّية، في صورة تفريط فرنسا فيها بالبيع أو التغيير.

ولا يكفي في هذه الظروف الطارئة، ان تكون تونس مهددة بجدية في امنها واقتصادها، لتضاف اليهما الحالة السياسية الداخلية والخارجية، وتبين أن ذلك مرده أولا وقبل كل شيء، سوء اختيار الشعب لنوابه في البرلمان، نتيجة خضوع افراده الى تأثيرات دعائية كاذبة، أو مجاراة أو مجاملة أصدقاء، والاخطر من ذلك كله، المال السياسي الذي بدأ يؤثر في الانتخابات، بحسب قوة المبالغ المرصودة، لشراء ذمة الناخب وصوته، وهذا أمر لم يعد خافيا خلال انتخاب الدورتين البرلمانيتين، ويجب إيجاد حل لهذه المعضلة التي تتناقض تماما مع مبدا الديمقراطية.

والمال السياسي العابث بمستقبل بلادنا، له مصدران رئيسيان مصدر خارجي مأتاه دول من مصلحتها انجاح هذا الحزب على البقية، استدامة لبقاء مصالح تلك الدول قائمة حظوظها وضامنة لاستمراها، وداخلي بدعم الرأسمال الفاسد، لمن أخذ العهدة على نفسه من احزاب وافراد، للتغطية على الجرائم المالية المرتكبة من اصحابه، وتجميد ملفات فساده، وغض الطرف عن تجاوزاته بحق قوانين المالية للبلاد.

اعتقد أن تجديد مطلب سحب الثقة من رئيس البرلمان سوف تتجدد، في مفتتح السنة البرلمانية الجديدة، ولا خيار للشيخ راشد من الاستقالة حفظا لما بقي من ماء وجهه ولأجل مصلحة البلاد، وأرى انه سيفعل ذلك ليخرج من الباب الكبير، عوضا عن تحصيل عدد النوّاب المطلوب، لإخراجه من رئاسة المجلس، ومن البرلمان ايضا، فبقاءه هناك بعد سحبه إهانة له هناك، نصيحة صادقة قد يقدّمها أي مواطن صادق: أن يراجع الشيخ راشد نفسه خلال هذه العطلة ويقوم بما يستوجبه الواجب الوطني.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!